ياسر عرفات

07 اغسطس 2015

ياسر عرفات..كان يعلم أنه ذاهب إلى حتفه وسط الأشرار

+ الخط -
ثلاثة عقود، وإلى سنوات قليلة قبل رحيله التراجيدي، اجتنبت اللقاء بياسر عرفات، أو التقرب منه، ومن بطانته، مع أن الأمر كان متاحاً بسهولة، ولأي فلسطيني داخل مؤسسات منظمة التحريرالفلسطينية. لم أحبّ عرفات، وكنت أعلم أن وراء مشاعري السلبية تلك نشأة يسارية فصائلية، غبية إلى حد الخجل، اختلط فيها التحليل الأيديولوجي السطحي للواقع الفلسطيني، وتقييم الشخصيات المنخرطة في الحراكات النضالية، استناداً إلى هذا التحليل، وإسقاط المفاهيم الماركسية المسطحة على واقع مختلف جذرياً عن بيئة نشوء الماركسية، والإعلاء من شأن المثالية الوطنية، في التعامل مع قضايا الصراع مع العدو الوطني، إلى درجة السذاجة، والجهل بطبيعة العدو، وتحليل بنيته والتقليل من جبروته، والاستخفاف بمكونات القوة لديه، والوهم بقدراتنا التي لم تستطع أن تحمي مخيماً واحداً من مخيمات اللاجئين البؤساء من السقوط والمحق، أو الثبات على أرض واحدة أكثر من عقد من عقود النضال الوطني. 
كان حلمنا اليساري الواهم، أن نرى قائداً وطنياً فلسطينياً مفكراً، مثل لينين أو ماوتسي تونغ، ووسيماً تعشقه النساء، وينبهر به الشباب، لا يهدأ من النضال في الغابات مثل تشي غيفارا.
لم يتوفر هذا الأمر في كل الشخصيات القيادية الفلسطينية، فلم يكن جورج حبش، ولا نايف حواتمة، مثلين، لا لينين ولا ماو تسي تونغ ولا غيفارا. وبالتأكيد لم يكن ياسر عرفات يشبه أياً من هؤلاء. والأهم من هذا كله، لم يكن الشعب الفلسطيني، ولا بيئته الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، ولا تشتته تحت احتلال استعماري استيطاني، وخضوعه لإدارتين عربيتين في الضفة وقطاع غزة، وتشتت نصفه في مخيمات البؤس في الدول العربية يشبه تلك الشعوب التي عرفت قياداتٍ لا يزال اليسار الواهم يقدسها، كأيقونات من غير نقد أو تحليل.
لم تتمكن بنية الشعب الفلسطيني، أن تقدم في تاريخها الطويل من النضال قائداً معجوناً من طينة إلهية أو ملائكية. أفرز هذا الشعب هؤلاء القادة، ومنهم ياسر عرفات الذي كان نتيجة طبيعية وحتمية لكل الواقع الفلسطيني والعربي. كما لم يعرف التاريخ الفلسطيني، في نضاله الوطني، شخصية قيادية، أجمعت عليها فئات الشعب بغالبيتها، كما أجمعت هذه الأغلبية عليه، على الرغم من كل الانتقادات حول براغماتيته، ورعايته أحياناً والتغاضي أحياناً كثيرة عن الفساد والفاسدين الذين استفادوا من قربهم منه، فأباحوا ثقافة فاسدة، ترعرعت في بيئة صالحة لنموها.
وعلى الرغم من ذلك كله، كان ياسر عرفات، بوجوده وحسه الوطني، ضمانة قوية لفرملة اندفاع الفكر الأصولي الإسلامي في الوسط الفلسطيني الذي ما شهد ذلك الصعود، إلا بعد رحيله المأساوي مسموماً. وكان عرفات أول من كشف أكاذيب آيات الله في إيران، وغوغائيتهم للقضاء على إسرائيل وراعيها الشيطان الأكبر. ولذا، دعا ممثل آيات الله في لبنان، الشيخ حسن نصرالله، في التسعينات إلى قتله، قبل أن يقرر شارون ذلك بعقد أو أكثر. وياسر عرفات هو الذي مثّل شوكة في حنجرة حافظ الأسد، وتشدقاته القومية البعثية، ومحاولاته مصادرة القضية الفلسطينية وقرارها، باسم مقاومة العدو الفارغة من أي معنى جديّ.
لم أقترب من ياسر عرفات، إلاّ في سنواته القليلة الأخيرة، حين زرته مرات في المقاطعة في رام الله. كانت الأخيرة قبل اغتياله بشهور ثلاثة. وكم شعرت بالأسى والحزن، حين اكتشفت، عن قرب، كيف تخلى عنه المقربون الذين صنعهم ياسر عرفات نفسه، ورعا صعودهم وفسادهم واستعدادهم قبولَ شطبه من خريطة الفعل، بدفعه إلى التنازل أو التخلص منه. لم يكن لديّ ما أقدمه إلى ياسر عرفات سوى اعتذاري عن موقفي اليساري الأحمق في بدايات السبعينات، والتماهي الصادق مع محنته، بطلاً إغريقياً، كان يعلم أنه ذاهب إلى حتفه وسط الأشرار.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.