26 أكتوبر 2024
واقعية لبنان... قاتلة
بات الأمر شبه محسوم. ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، بعد غد الإثنين. علينا التعايش مع هذا الوضع، خارج سياق رغباتنا وأمنياتنا، كما خارج إطار آمالنا وأحلامنا، فإذا كانت "الواقعية السياسية" تفرض وصول عون إلى القصر الرئاسي في بعبدا (شرق بيروت)، فإن "الواقعية السياسية" نفسها تفرض عدم انتظار تحوّلاتٍ جذرية في الساحة اللبنانية، ولا تعليق آمال هائلة على حصول تغيير "خارق".
لا يعود ذلك إلى شخص عون، بل إلى واقعٍ مفروز منذ الانسحاب السوري من لبنان، ربيع 2005. لم يتغير هذا الواقع، وإن تبدّلت مواقع الأطراف الداخلية. واقع يختلط فيه التمثيل السياسي الطوائفي، مع مصالح أمراء الحرب، ومصالح الإقطاع الديني. واقع يسمح لفردٍ أو جماعةٍ بتمثيل طائفة، من حزب الله وحركة أمل إلى تيار المستقبل إلى التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية إلى الحزب التقدمي الاشتراكي، وغيرهم. لا يُمكن، بالتالي، تبديل أي شيء خارج إطار وجود تلك الأحزاب والتيارات، خصوصاً أنهم يُشكّلون معاً "الدولة العميقة"، وبنِسَب متفاوتة.
تلك "الدولة" التي بُنيت طوال سنوات ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) لم يعد من السهل إطاحتها أو تحطيمها، فكل التحولات السياسية تجري عبرها. وأي تغيير لن يكون سهلاً على الإطلاق. اسألوا متظاهري "الحراك المدني" صيف 2015. يُمكن لهذا النظام البقاء حياً، مهما كان الوضع الاجتماعي كارثياً، والطبابة غير مؤمّنة، والتعليم غير متوفر، والبنى التحتية سيئة، ومهما كانت قطاعات التنظيم المدني والنقل العام والكهرباء والمياه وغيرها مترديّة. لم يعد ممكناً التغيير من داخل النظام، وبات التغيير صعباً من خارجه. أكياس النفايات المنتشرة في شوارع لبنان شاهدة على ذلك.
أدى ذلك كله إلى صيرورة النظام حاضناً للطامحين إلى السلطة، لا محرّكاً محفّزاً لتغييره. يمكنكم سؤال رؤساء الجمهورية والحكومات والمجلس النيابي والوزراء والنواب، الحاليين والسابقين، وكل من يرتبط بعلاقةٍ عضوية مع هذا النظام. لا أحد يريد تغييره. الجميع يعتمد عنواناً برّاقاً لديمومته: "اتفاق الطائف". مع العلم أن الاتفاق المذكور الذي يُشكّل محطة فاصلة في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية لا يُطبّق كما هو، أقلّه على صعيد عدد النواب، المفترض أن يكونوا 108 نواب فقط، غير أنه و"بسحر ساحر"، ارتفع العدد إلى 128 نائباً "لمراعاة مشاعر بعضهم"، أي تأميناً لمزيدٍ من التشاركية المصلحية في النظام، على حساب المواطنة والقانون.
تفرض "الواقعية السياسية" أيضاً الصمت برهة، والتوقف عن التوهّم باسم الأحلام. لا يمكن تغيير أي أمرٍ في بلد كلبنان، بات الفساد فيه ملكاً قاتلاً، بصورة "تقليدية"، أي الاحتجاج الفيسبوكي أو الاعتصام الذي لا يستمرّ سوى بضعة أيامٍ حدّاً أقصى. لن يحصل التغيير الفعلي سوى عبر أمور ثلاثة. إما بالقوة، سواء باحتلال عسكري خارجي أو ثورة مسلّحة، وهما خياران غير متاحين ولا مستحبّين على الإطلاق، أو انتظار دورة الزمن عقداً كاملاً، تفرز فيه جيلاً جديداً من القادة، أو إدراك الشعب أولوية خياراته الاجتماعية، على حساب كل ما عداها من شعارات سياسية وطائفية ومناطقية، والتحرّك على أساسها.
غير ذلك، لا يمكن أن نفعل شيئاً. فرض الواقع نفسه علينا، لأننا لم نفرض أنفسنا عليه. نقبل أن تبقى النفايات في شوارعنا، ونقبل أن نموت على مداخل المستشفيات. نقبل عدم حماية عائلاتنا بتشريعات قانونية تحارب العنف الأسري، ونقبل التكدّس في زحمة السير اليومية. نحن شعب نقبل أن نموت بخلافٍ فردي. نحن شعب إن أردنا أن نفرح، على غيرنا أن يحزن، سواء بإطلاق الرصاص "ابتهاجاً" أو الألعاب النارية الشبيهة بالقصف المدفعي ليلاً.
تُحتّم "الواقعية السياسية" الإقرار بأنه يُمكن لنا قول كل شيء، لكننا لا نريد أن نفعل أي شيء. نريد لبنان جديداً، لكننا لا نسعى لأجله، لأننا، في مكانٍ ما، راضون بالنظام الطوائفي.
لا يعود ذلك إلى شخص عون، بل إلى واقعٍ مفروز منذ الانسحاب السوري من لبنان، ربيع 2005. لم يتغير هذا الواقع، وإن تبدّلت مواقع الأطراف الداخلية. واقع يختلط فيه التمثيل السياسي الطوائفي، مع مصالح أمراء الحرب، ومصالح الإقطاع الديني. واقع يسمح لفردٍ أو جماعةٍ بتمثيل طائفة، من حزب الله وحركة أمل إلى تيار المستقبل إلى التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية إلى الحزب التقدمي الاشتراكي، وغيرهم. لا يُمكن، بالتالي، تبديل أي شيء خارج إطار وجود تلك الأحزاب والتيارات، خصوصاً أنهم يُشكّلون معاً "الدولة العميقة"، وبنِسَب متفاوتة.
تلك "الدولة" التي بُنيت طوال سنوات ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) لم يعد من السهل إطاحتها أو تحطيمها، فكل التحولات السياسية تجري عبرها. وأي تغيير لن يكون سهلاً على الإطلاق. اسألوا متظاهري "الحراك المدني" صيف 2015. يُمكن لهذا النظام البقاء حياً، مهما كان الوضع الاجتماعي كارثياً، والطبابة غير مؤمّنة، والتعليم غير متوفر، والبنى التحتية سيئة، ومهما كانت قطاعات التنظيم المدني والنقل العام والكهرباء والمياه وغيرها مترديّة. لم يعد ممكناً التغيير من داخل النظام، وبات التغيير صعباً من خارجه. أكياس النفايات المنتشرة في شوارع لبنان شاهدة على ذلك.
أدى ذلك كله إلى صيرورة النظام حاضناً للطامحين إلى السلطة، لا محرّكاً محفّزاً لتغييره. يمكنكم سؤال رؤساء الجمهورية والحكومات والمجلس النيابي والوزراء والنواب، الحاليين والسابقين، وكل من يرتبط بعلاقةٍ عضوية مع هذا النظام. لا أحد يريد تغييره. الجميع يعتمد عنواناً برّاقاً لديمومته: "اتفاق الطائف". مع العلم أن الاتفاق المذكور الذي يُشكّل محطة فاصلة في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية لا يُطبّق كما هو، أقلّه على صعيد عدد النواب، المفترض أن يكونوا 108 نواب فقط، غير أنه و"بسحر ساحر"، ارتفع العدد إلى 128 نائباً "لمراعاة مشاعر بعضهم"، أي تأميناً لمزيدٍ من التشاركية المصلحية في النظام، على حساب المواطنة والقانون.
تفرض "الواقعية السياسية" أيضاً الصمت برهة، والتوقف عن التوهّم باسم الأحلام. لا يمكن تغيير أي أمرٍ في بلد كلبنان، بات الفساد فيه ملكاً قاتلاً، بصورة "تقليدية"، أي الاحتجاج الفيسبوكي أو الاعتصام الذي لا يستمرّ سوى بضعة أيامٍ حدّاً أقصى. لن يحصل التغيير الفعلي سوى عبر أمور ثلاثة. إما بالقوة، سواء باحتلال عسكري خارجي أو ثورة مسلّحة، وهما خياران غير متاحين ولا مستحبّين على الإطلاق، أو انتظار دورة الزمن عقداً كاملاً، تفرز فيه جيلاً جديداً من القادة، أو إدراك الشعب أولوية خياراته الاجتماعية، على حساب كل ما عداها من شعارات سياسية وطائفية ومناطقية، والتحرّك على أساسها.
غير ذلك، لا يمكن أن نفعل شيئاً. فرض الواقع نفسه علينا، لأننا لم نفرض أنفسنا عليه. نقبل أن تبقى النفايات في شوارعنا، ونقبل أن نموت على مداخل المستشفيات. نقبل عدم حماية عائلاتنا بتشريعات قانونية تحارب العنف الأسري، ونقبل التكدّس في زحمة السير اليومية. نحن شعب نقبل أن نموت بخلافٍ فردي. نحن شعب إن أردنا أن نفرح، على غيرنا أن يحزن، سواء بإطلاق الرصاص "ابتهاجاً" أو الألعاب النارية الشبيهة بالقصف المدفعي ليلاً.
تُحتّم "الواقعية السياسية" الإقرار بأنه يُمكن لنا قول كل شيء، لكننا لا نريد أن نفعل أي شيء. نريد لبنان جديداً، لكننا لا نسعى لأجله، لأننا، في مكانٍ ما، راضون بالنظام الطوائفي.