الأنماط الإسرائيلية وبيروت
ما أثبته العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان، منذ 23 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، أنه لم يعد يمكن التنبؤ بسلوكات الاحتلال، ولا بأنماط حراكه العسكري والسياسي. قد يكون ذلك ناجماً عن انبثاق مرحلة أخرى بعد 7 أكتوبر (2023). قبل ذلك التاريخ، وعلى الصعيد اللبناني، كان معلوماً أنّه حين يهدّد الإسرائيلي بالويل والثبور في لبنان، يعني أنّ الوضع بخير، وأنّ لا حرب في الأفق، بينما في حال لاذ الاحتلال بالصمت فترةً طويلةً، فإنّ المخاوف من أيّ عدوان تُصبح واردة. قبل 7 أكتوبر، كانت العلاقة بين الاحتلال ولبنان محكومة بعاملين. العامل الأول هو طغيان شبه اقتناع لدى الطرفَين، أنّ عدوان 2006 "قد يكون الأخير" بين حزب الله وإسرائيل، مُعزَّزاً باتفاق ترسيم الحدود البحرية بين بيروت وتلّ أبيب في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، بموافقة حزب الله. أمّا العامل الثاني، فكانت الرغبة الأميركية في إرساء استقرار بين الطرفَين، بلغ حدّ التفكير في العودة إلى العمل باتفاقية الهدنة الموقّعة في عام 1949. أصلاً هذا ما ورد أيضاً في بنود اتفاقية الترسيم البحرية.
في تاريخ الاعتداءات الإسرائيلية قبل السابع من أكتوبر على لبنان، كان الزحف السريع في اجتياحي 1978 و1982، والحروب الخاطفة والمدمّرة في اعتداءات 1993 و1996 و2006، نموذجاً لعدم رغبة إسرائيل في خوض معارك استنزافية طويلة الأمد. بعد 7 أكتوبر تبدّل هذا المفهوم. بات العامل الاستخباراتي أكثر انخراطاً، مثلما كشفت تفجيرات أجهزة الاتصال في 17 و18 سبتمبر الماضيَين، والاغتيالات المتلاحقة لقياديين من الحزب، وذلك في وقتٍ بدأت إسرائيل توغّلاً برّياً، وصفته بـ"المحدود" في 1 أكتوبر الحالي في لبنان، حيث ما زالت تخوض معارك مع حزب الله في المواقع الأمامية في القطاعات الشرقية والوسطى والغربية، في مقابل استمرارها في شنّ غاراتٍ جويةٍ مكثّفةٍ في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.
في تلك المحطة من الاعتداءات، لم يعد صحيحاً الاعتماد على كلام كاتب إسرائيلي أو رأي إعلام إسرائيلي، أو حتّى مواقفَ عسكريةٍ وسياسيةٍ للاحتلال. ما نراه اليوم أخبار من نوع معيّن، قد نفاجأ بتبدلّه في اليوم التالي، من دون فهم ذلك ولا كيفية حصوله. يعود السبب إلى أنّ الإسرائيليين ليسوا مُربَكين في كثير من الأحيان، بل إنهم يروّجون عمداً الأخبار المتناقضة، نمطاً مدروساً للبقاء متقدّمين. مثال على ذلك، أوحى الإسرائيليون عبر سياسييهم وإعلامهم أنّهم لن يهاجموا لبنان، وأنّ اتفاق غزّة، بحكم ربط حزب الله جبهة لبنان بجبهة غزّة، سيُبصر النور في وقتٍ ما، وأنّ حرب الإسناد اللبنانية ستبقى في إطار قواعد الاشتباك المعمول بها منذ عام 2006. في المقابل، كانت الأجواء اللبنانية عبارة أنّ "حرباً شاملة لن تقع"، وعدّد أصحاب هذه العبارة أسباباً لذلك، استناداً إلى ما ورد على ألسنة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين ووسائل إعلام الاحتلال.
ما الذي حصل؟ ... غيّر الإسرائيليون نمطهم وهاجموا لبنان بأكبر قوة نارية ممكنة يتلقّاها هذا البلد في التاريخ. وليس هذا فحسب، بل حتّى قرروا خوض حرب استنزاف طويلة الأمد، وفق ما أظهر سلوكهم السياسي والعسكري. أكثر من ذلك، ما زالوا يوجّهون الرسائلَ المتناقضةَ في عدوانهم على لبنان، وهو ما يستوجب الانتباه ملياً إليه، إذ إنّ من أقدم على مهاجمة لبنان بهذه الكثافة بعد أشهر من مواجهات محدّدة، لن يتردَّد في محاولة اجتياح العاصمة بيروت مُجدَّداً. وفي أيّ تكتيك أو حساب عسكري، يجب وضع هذا الاحتمال أولويةً مطلقة. يكفي قصف جنود الاحتلال مواقع قوة الأمم المتّحدة المؤقّتة في لبنان (يونيفيل) أخيراً، بغية إبعاد عناصرها من الحدود أولاً، ولاحقاً إلى بيروت. التفكير خارج هذا الإطار، والاعتقاد أنّ إسرائيل ستتوقّف في لحظة ما، أشبه بوهمٍ خريفي. الحسابات الإسرائيلية تبدأ من بيروت لا قبلها. وهو ما على اللبنانيين إدراكه، لا غيرهم.