طبيعة التفكير الإسرائيلي

19 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

من أجل فهم التفكير الإسرائيلي، تجب العودة إلى منبع واحد: التوراة. هناك "أسرار" إسرائيل وخططها واستراتيجياتها كلّها. ليس هناك من إسرائيلي واحد، مؤمن دينياً أو علماني أو ملحد، غير متأثّر بالتوراة. هو الكتاب الأساس الذي يركن إليه الاحتلال منذ عام 1948، يسارياً الحكمُ كان أم يمينياً. والحاجة لفهم التوراة تدفع لفهم الصهيونية، ثمّ طبيعة سلوك حكومة بنيامين نتنياهو.

لا يتعلّق الأمر بكتاب التوراة حصراً، بل بمجمل الكتب الدينية، التوحيدية منها وغير التوحيدية. كلّها رسّخت نمطاً اجتماعياً وتفكيراً سياسياً ـ اقتصادياً في مختلف المجتمعات حول العالم. في إسرائيل، لم يتردّد نتنياهو في استعارة آيات من أسفار قديمة لتبرير حروبه التدميرية في الشرق الأوسط، مؤجّجاً البعد الديني لعدوانه من جهة، وملقياً الضوء على حقيقة التفكير الإسرائيلي من جهة أخرى.

الإسرائيليون، بمختلف أجنحتهم السياسية، متّفقون على شيء واحد، "الحقّ الوجودي لإسرائيل دولةً". الباقي من حلّ دولتَين، وتقسيم القدس المحتلّة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والعلاقة مع المحيط المباشر من لبنان وسورية والأردن ومصر، كلّها أمور خاضعة لأنماط سياسية متحرّكة. لذلك، لا يمكن الاعتقاد لحظةً أنّ للاحتلال تفكيراً مشابهاً للذي أرسته الأمم المتّحدة بشرائعها المتلاحقة، ولا أنّه خاضع لأيّ قرار أممي. الاحتلال يعنيه فقط أنّ ما يحصل في الشرق الأوسط هو امتداد للحروب والمعارك المدوّنة في التوراة. وبالتالي، مُحلَّل له، بدعم أميركي أو من دونه، القيام بما يجب فعله للبقاء على قيد الحياة في المنطقة. طبعاً، لا يريد الاحتلال الانتباه إلى واقع أنّ قيام إسرائيل في عام 1948 كان على حساب شعب لم يحلّ في لحظة وضحاها في فلسطين. تكفي المجازر المرتبكة في ذلك الحين للإشارة إلى حقائقَ تاريخية.

اليوم، لم يتأخّر الاحتلال في العودة إلى التوراة (لا عام 1948 فحسب) وأمام العالم أجمع، عبر إطاحته أعداءه يمنةً ويسرةً، وآخرهم يحيى السنوار. وبذلك، يظهر الإسرائيلي وكأنه شعب خرج إلى الحرب فقط ليقتل قدر ما يشاء من دون السعي إلى حلول سياسية. وفي مسألة ترك المحتجزين الإسرائيليين في غزّة عاماً كاملاً تكريساً لمبدأ "التخلّي عن أفراد من أجل شعب"، أي إجراء "هنيبعل"، الذي يسمح بقصف مواقع الجنود الإسرائيليين الأسرى، ولو أدّى إلى مقتلهم. هذه المرّة شمل الإجراء المدنيين الإسرائيليين أيضاً.

أمّا في مرحلة ما بعد اغتيال يحيى السنوار، فإنّ الاحتلال لن يتوقّف بل سيواصل مجازره في غزّة ولبنان، وسيندفع لفرض وقائعَ جديدةٍ باسم الدم، وسيرسم حدوداً سياسيةً مغايرةً للسابق في الشرق الأوسط، ما لم يوقفه أحدٌ ما. في التوراة كثير من الآيات والأمثلة التي تتحدّث عن الثأر والانتقام بأمر إلهي، ما يتيح تعزيز البعد الديني للعدوان الإسرائيلي على غزّة ولبنان. أمّا الخطيئة التي لا بدّ من تكرارها بحكم لعنات الشرق الأوسط المتوالدة، فتبدأ من الاستخفاف بالاحتلال، جنوداً ومدنيين. التقليل من أهمية العدو يخلق حالة من الاسترخاء، فيما يترك العدو متحفّزاً.

الإسرائيليون يعشقون الاستعانة بشمشون وجدعون وداود في استعاراتهم التاريخية، للدلالة فقط على أنّهم "قلّة يحاربون كثراً وينتصرون". لا يتعلّق الأمر بعدم فهمنا عرباً حقائق القضية الفلسطينية، بل بعدم فهمنا إسرائيل بعد 75 عاماً من نشوئها، والاعتقاد أنّ دعم الولايات المتّحدة وحده كافٍ لها. وفي هذا خطيئة مساوية للتجهيل. صحيح أنّ النظام الأميركي، بحزبيه الديمقراطي والجمهوري، قائم على دعم الاحتلال، لكن أيضاً لا يتوقف هذا الدعم عند هذا الحدّ، بل يمتدّ إلى روسيا والصين والاتحاد الأوروبي. جميع هؤلاء قد ينتقدون إسرائيل بنسب متفاوتة، لكنّهم جميعاً مستعدّون للدفاع عنها في حال كان هناك "خطر وجودي" عليها. هذا ما يجب علينا فهمه والانطلاق منه، لا نكران هذه الوقائع.

في التفكير الإسرائيلي توراة متجدّدة، وفي حماية إسرائيل دولٌ لا تتخلّى عنها.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".