وائل الفشني.. الصوت الكامل

07 يوليو 2017

وائل الفشني..علامةً مضيئةً في عالم الغناء العربي

+ الخط -
لا يمكنك أن تخرج من مسلسل "واحة الغروب"، وتنسى ذلك الاكتشاف المبهر لصوت وائل الفشني الذي أبدع في أغنية التتر في موسيقى للموسيقار تامر كروان. يظل صوت وائل عالقاً بأغصان الروح، وهو يشدو بما يمكن وصفها النهاية الحزينة للمسلسل والرواية من قبله، على الرغم من أن كلمات الأغنية مأخوذةٌ من التراث الصعيدي المصري، مثل كل تراثٍ عربيٍّ معجون بالحزن والخسارة والفقد والوداع الذي ليس بعده لقاء.
سحرني وائل الفشني. استمعت، فيما بعد، لتسجيلاتٍ له، وكلما استمعت إلى موّال "سافر حبيبي" في حفل ساقية الصاوي في القاهرة، وأشاهد الفشني، يزداد شغفي بصوته وأدائه وفتنة تعبيرات الوجه، وحركة الجسد واليدين والصدر، وبريق العينين، ومداهما المنظور في أثناء الغناء. تلك الفتنة التي يفتقدها مغنون كثيرون على المسرح، لا بل إن كثيرين يتميزون بتعبيراتٍ وحركاتٍ تنفّر المشاهد، لأن المستمع أمامهم يدرك جيداً إلى أي مدى يكون المغني متماهياً إلى درجة الذوبان مع الكلمات واللحن، في جسده وصوته النابع من تلك المطارح الحافلة بالغموض، فينفر من كل استدراجٍ واضحٍ للإعجاب، ذلك أن المغني لا يمكن أن يجذبنا إلى ملكوت الطرب والمعاني، إذا لم يكن شفافاً وصادقاً. سقط مغنون كثيرون في اللحظة الفاصلة بين التماهي بين المعنى وروح المغني، فانكشف عنهم الغطاء الكاذب الذي حاولوا تقديمه صفةً لهم، فانهاروا حتى وإن بقيت قوة روح الكلمات التي غنّوها.
في لندن عام 1985، في لقاءات لي مع المغني الشيخ إمام، تحدثت معه عن تأثير تجويد القرآن في تجربته وتجربة الموسيقيين والمغنين الخالدين، مثل الشيخ سيد درويش والشيخ أبو العلا محمد والشيخ زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم، الذين جاؤوا إلى الموسيقى والأغنية من ترتيل القرآن في بداياتهم، وتجويده بحسب أصول التجويد. وذكر لي الشيخ إمام أن تجويد القرآن هو المدرسة الأولى لمعظم المغنين، ذلك أن قوانين التجويد، الصارمة في ضرورتها، تعلّمك أصول الغناء وإخراج الحروف من مخارجها ونطقها، بحيث يظهر كل حرفٍ من حروف الكلمات المغناة من مخرجه واضحاً وضّاءً وشفيفاً، ولا تطغى عليه الموسيقى، لأن الصوت البشري الواضح هو الأساس والميزان والشرط الصارم.
وإذا كان الشيخ إمام عيسى جاء من حلقات قراءة القرآن وتجويده إلى الغناء، فإن وائل الفشني جاء وريثاً لجدّه طه الفشني الذي بدأ رحلته من الغناء والنشيد الصوفي إلى الالتزام حصراً بتجويد القرآن وترتيله، ما جعل الفتى وائل الفشني يختزن تجربة جدّه في الترتيل والتجويد والغناء الصوفي، فيلملم بجوارحه كلها تلك التجربة الغنية في حرفيتها الأدائية، مع امتلاك صوت رباني، لا أحلى ولا أجمل. انظر إلى وائل الفشني يغني على المسرح، وقس تلك المسافة ما بين فمه الذي يشدو والميكرفون الذي كثيراً ما يغطي قصور الأصوات لمطربين مشهورين كثيرين، فيضخم أصواتهم، ويوهم المستمع بقوة الصوت، وتعدّد طبقاته، وجودة خامته الطبيعية، أو يجعل آخرين، ومنهم وائل الفشني، يدهشونك، فتسأل: وما حاجته إلى الميكرفون، مع كل هذه المساحات الشاسعة، والتدرّجات المتنوعة، وثمار الروح المنثورة أمام المستمعين، والآتية من صوته الذي يأخذك بعيداً إلى ملكوتٍ غامضٍ، فتحلق كأنك مأخوذٌ، ولن يسعفك الواقع المرير على العودة من المتعة والرجرجة الروحية.
نحن أمام ظاهرةٍ ستأخذ حيّزاً كبيراً من اهتماماتنا، بعد أن تلوثت الذائقة العامة في الأغنية، حيث لا أصوات، ولا فتنة حضور.
إذا كانت رواية "واحة الغروب" أخذت مركزها اللائق في الأدب العربي، والمسلسل البديع غيّر مفاهيم العمل الدرامي التلفزي العربي، فإن صوت وائل الفشني الكامل في بنيانه، والمتشعب في المطارح التي يحمل المستمع إليها، سيكون علامةً مضيئةً في عالم الغناء العربي المعتم.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.