هل مات التحليل السياسي؟

13 مايو 2018
+ الخط -
• يعيش التحليل السياسي ربيعَه في عالمنا اليوم؛ مِن ناحيةٍ عددية على الأقل. أما نوعياً، فلعله يعيش خريفَه. في الحالين، هو يعيش فصلاً حافلاً بالتغيرات، وما عاد يشبه ما كان عليه بالأمس. وبحسبة الأرقام، لم يعرف العالَم منذ ميلاد الفكرة الدبلوماسية، ونشوء عصبة الأمم، هذه الكثافة في التعليق والتحليل وتكاثر المؤسسات والمراكز المتخصصة في قراءة المشهد الدولي، وفكّ طلاسمه والتنبؤ –أو التنجيم- في الغد السياسي المجهول. لهذا الصعود والانتشار مبرره الوجيه، فالمعطيات المتاحة اليوم والكثافة الإحصائية والمعرفية التي تتوفر لكل حدث دولي غيرُ مسبوقة. لكن الأمر فاض حتماً عن وفرة المعطيات والمعلومات، وصار تعداد المحللين قياسياً ومدعاةً للتأمل. لم يكن لهذا التزاحم في مضمار التحليل أن يحصل من دون أن يتغيّر التحليل نفسه تحت وطأة الزحام. إن التراكم الكمي كثيراً ما يفضي للتردي النوعي. وربما صارت كثافة الرديء وانتشارُه مبرراً محقاً لطرح السؤال: هل ما زالَ التحليلُ السياسي حيّاً، أم أنه انتهى؟
• نشأت أنماط متنوعة من التحليل السياسي الرديء خلال السنوات الماضية، يجمع بينها شيءٌ واحد؛ أنها ليست تحليلاً سياسياً من الأساس. أولها ربما هو التحليل الإنشائي، وخلاصته الركون للبلاغة والمجازات الشائعة، بدلاً من طرح الأفكار. إن القول مثلاً إن "الشعوب منتصرة لا محالة مهما طال الزمن" ليس تحليلاً للواقع، ولا نبوءة للمستقبل، بل ليس حتى بلاغة يُعتدّ بها لأنها بلاغة مكرورة. ومع الوقت، وفي كل قضية، يتراكم لدينا أرشيفٌ من هذه الإنشائيات الجاهزة التي تخلو من أي معنى، وتتآكل فيها الدلالات، ولا يعود لاستخدامها دافعٌ سوى الكسل الفكري وخمول الذهن. ولا يسهم اللجوء لمِثل هذه المُعلّبات الصوتية الجاهزة
 بتفكيك المشهد السياسي، بل أسوأ من ذلك؛ كل ما تفعله صوتياتٌ كهذه هو ردم الجوهر تحت ركام الزخرفة. وعندما تكون الزخرفة فقيرةً، حتى للجِدّة والأصالة، فإنها تصبح شكلاً مضاعفاً للرداءة. ليست اللغةُ الجميلة عيباً، وليست اللغة التقنية الباردة ضمانةً للعمق. في كل مجازٍ جديد وصورةٍ لغوية مفارِقةٍ للشائع، هناك إيقاظ لوعي الإنسان وقدح لحواسه. وفي كل مجاز مستهلك وصورة لغوية رتيبة، هناك تخدير للوعي وإماتة للحواس. إن استخدام الجماليات بديلاً للأفكار جريمة بحق الأمرين، والتجديد في اللغة، كما التجديد في الأفكار، ليس قضية ترفيهية ولا كمالية كما يظن كثيرون، بل مسألة فكرية بامتياز.
• وإذا ما وضعنا مسألة الإنشائيات جانباً، فلدينا آفةٌ أخرى في مضمار التحليل السياسي، شاعت أخيرا، وهي التحليل الفراغي، حيث الكلام والكتابة لا تُحيل إلى شيءٍ خارج نفسِها. إن القدرة على الحديث من دون قولِ شيء، أوالكتابة من دون التصريح بمعنى، هو موهبة تستحق اعترافاً، وإنْ لم تكن بالضرورة تستحق احتراماً. ما قيمة التحليل الذي يخلص على الدوام إلى أن المشهد معقدٌ ومفتوحٌ على كل الاحتمالات؟ منذ متى كان المشهد بسيطاً ومنغلقاً على الاحتمالات؟ إن مفردة "تحليل" مشتقة من الحلّ، أي فكّ العقد. وعليه، من الغرابة بمكان أن يتحول التحليل إلى ممارسة وصفية في صعوبة العُقَد واستعصائها على الحل. إن تكثيف الأسئلة وتعزيز الغموض ثم تركَ الإجابة للمتلقي هو وظيفة الفنان التشكيلي، وليس المحلل السياسي.
• لكنّ أسوأ أشكال التحليل ليس أياً مما سبق، وإنما نمطٌ ثالث يستحق بجدارة لقب التحليل الدعائي. هنا، يبدأ كل تحليل من نهايته، لا من بدايته، لأن الهدف منه ليس تحليل الحدث، وإنما صياغة بروباغندا سياسية في هيئة تأملٍّ فكريٍّ زائفٍ بالحدث. يتظاهر المحلل أنه يطرح أسئلةً، ويسعى إلى الإجابة عليها، فيما الواقع أنه يبدأ من الإجابة المحسومة والموقف المسبق الذي يريد تأكيده. الأجواء القتالية الطاحنة في المنطقة العربية والعسكرة الإعلامية لكل وسائط
 التعبير تجعل من هذا النمط التحليلي سرطاناً متفشياً. وهو قبل كل شيء جريمة بحق السعي الإنساني إلى المعرفة، وتهريبٌ للأدلجة والدعاية تحت إهاب المنطق والفكر النقدي. لا يختلف هذا النمط من التحليل عن أي دعاية سياسية تقليدية، ولا هو أكثر إرهافاً أو عمقاً من المنشورات الدعائية التي تُرمى وقت الحروب من الطائرات والحوّامات لضرب معنويات الخصم ونشر الشائعات الموجّهة. وصار شائعاً أن يتم تبرير هذا النمط عبر ابتزاز مقصود للتمييز بين الحياد والموضوعية. إن الانحياز لموقف مبدئي شيء، والتحولَ لمُكبِّرِ صوتٍ دعائي شيء آخر تماماً. وإننا نخون قضايانا عندما نخون موضوعيتنا تجاهها، مهما كانت تلك الموضوعية قاسيةً ومؤلمة علينا.
• من السهل الحديث عن الكتابة السياسية الرديئة. لكن كم هو صعبٌ في المقابل أن تصِفَ الكتابة الجيدة. لم تعد مراكمة المعلومات وسرد الوقائع وتلخيص التفاصيل فضيلة كافية للتحليل، فمصادر المعلومات متاحةٌ هذه الأيام على مصاريعها. لكن أمرين بالذات أراهما يستحقان الذكر في صفة التحليل الجيد. الأول الكشف عن تناقضات مستترة في المشهد السياسي، بما يتجاوز الظاهر المرئي. والثاني، إدراك أنماطٍ مكرّرة في الأحداث السياسية، لكنها محجوبةٌ وراء زحمة التفاصيل، وغير ظاهرة للعيان. إن القدرة على رؤية المحجوب في أي مشهد، من دون افتعال أو اصطناع، موهبةٌ بحق وركنٌ أساسي لأي تحليل سياسي قيّمٍ وعميق. وهي كغيرها من المواهب، ليست مادة يمكن تعليمها أو اكتسابها، وهي حتماً، فوق هذا وذاك، عملة نادرة في سوقٍ صار غارقاً بالنقد المزيف.
دلالات
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
عوني بلال
عوني بلال