17 مارس 2019
عن جدوى المبادئ
عوني بلال
• للمبادئ مكانة أثيرة في قلوبنا. هكذا إلى أن نبدأ بالتعب منها. حينها نستنكف عن تسميتها مبادئ، ونبدأ بتلقيبها مثاليات، قبل أن نتجاسر أكثر، ونأخذ بنعتها بالفكر المعقّم المنفصم عن الواقع، وتشبيه أنصارها بسكان أبراج العاج. في قلب هذا العداء الناشئ تجاه المبادئ، هناك اعتقاد شائع بأنها قيد طوعي نضعه على معاصمنا، وأن لها ضريبةً مجحفةً ندفعها من مصالحنا. وإذا وجد المرء نفسه في مواجهة خصمٍ منزوع المبادئ وعديم القيم، يصبح تبرير تجاوز المبادئ أمراً بالغ اليسر، ويأخذ التحلل من "المثاليات" شكل الوباء، ويدخل أطراف الصراع في سباقٍ محموم صوب الأسفل، لا فوز فيه إلا لمن يُمعن في السقوط والتردّي أكثر من سواه. وفي خضم الإشارة إلى ما يفعله الخصم، لتبرير التحلل من كل ضابط أخلاقي، ننسى أن الإنسان لا يختار مبادئه لتليق بخصمه، وإنما لتليق به هو، وأنها ليست ترفاً فكرياً أو بذخاً في المجردات، بل ضرورة مصلحية ونفعية حتى وإن بدت في الظاهرعكس ذلك.
• حتى اليوم، لا يزال كتاب ماكيافيللي "المير" نصّاً مقدساً في الإدارة السافلة للشأن العام، وربما لم تعرف المبادئ تشهيراً منهجيا بقيمتها كما عرفته على يد المذكور. ويقال أن موسوليني كان يستودع الكتاب بجانب سريره، وكأنه مصحف أو إنجيل. وكما في كل الأفكار النابعة من أقانيم التحلل الأخلاقي، هناك غواية ساحرة لطروحاتٍ كهذه، لأنها تخاطب مُركّبة الشر الفطرية داخل كل إنسان. "مِن الجيد أن لا تكون جيداً طوال الوقت، وليس سيئاً بالضرورة لو كنت أحياناً سيئاً". كثيرون طبعاً ليسوا بحاجة لقراءة ماكيافيللي حتى يتصرفوا بمقتضى أفكاره، فالماكيافللية كيمياء ذهنية، قبل أن تكون مُكتسباً ثقافياً. لكن المؤكد أن فكرة ربط النجاح والإنجاز بالتحلل من قيود الأخلاق تعزّزت ببركة هذا الكتاب القديم، وصار الطريق إلى الفشل والانزواء للهوامش يبدو لكثيرين مُعبّداً بالمبادئ الطيبة.
• بمرور الزمن، تُراكِم الأمم خبراتٍ عديدة، وتدفع في سبيلها أثماناً باهظة. وكي تحفظ دروسها من هذه الخبرات، وتنقلها إلى أجيالها اللاحقة فهي تشفّرها على هيئة مبادئ وقيم، عابرة للسياق، ومنفصلة عن الأحداث التي أنتجتها. ليست المبادئ ترفاً ذهنياً، بل صدىً لدروسٍ قديمةٍ تهدف، في المدى الطويل، إلى حفظ الخير العام للجماعة. وعلى نقيض ذلك، ليست أنماط السلوك التي تُسمى براغماتيةً أحياناً سوى اندفاعٍ للربح السريع والإنجاز الفوري. يتضمن التمسك بالمبادئ احتمالاً لألمٍ حاضر، صوناً لمصلحة أعمق لا تبدو ظاهرةً على الفور، وليست النفعية المتحللة من الأخلاق، في المقابل، أكثر من عجزٍ عن احتمال الألم الحاضر، أو شبق بالإشباع الفوري للرغبات.
• في فترة ما، اتُّهِم الموقف الداعي إلى رفض التسليح بالثورة السورية ورفض التدخل الدولي بأنه مثالية منفصلة عن الواقع، بل وحتى عمالة للنظام متدثرة بالمبادئ والمثاليات. وكان المبرر حادّاً ومضرجاً بالدم، فكيف يمكن أن ترى عشراتٍ يسقطون يومياً، وتملك صلف التنظير لقيم مخملية، لا تدرك فداحة الواقع. وكل ما ثبت بعد هذه السنوات العجاف أن ذلك الموقف المخملي كان أكثر المواقف واقعيةً ونفعية، وأنه كان الأقدر على صون دم الناس، وأن النتائج التي كان يمكن أن يفضي إليها التمسك بتلك المبادئ لن تكون، في أسوأ الأحوال، ببؤس النتيجة الحاضرة اليوم. لكن المأساة المتكرّرة في كل قضايانا هي الاستسلام لوطأة اللحظة، ولمزاودات تجار الدم وآلام الناس. مِن المفهوم أن مَن يعيش ظروف القهر المباشر قد يلجأ إلى أي ردٍّ ممكن، حتى لو كان ضارّاً به وبقضيته. لكن من غير المفهوم أن يُعينه على هذه الأذية الذاتية من لا يقع تحت وطأة القهر، ويشجعه، من بعيد، على الانغماس فيها، ويوفّر له كل السبل الممكنة للتورّط فيها أكثر.
• لا يكتسب التمسك بمبادئ أساسية في أي قضية أهميته من المبادئ وحدها، بل من أثر فعل التمسّك نفسه في صقل نفوس الناس، واستنهاض أحسن ما فيهم، وزيادة استعدادهم للتضحية. وإن تحييد المبادئ ووصمها بالمثاليات، والاعتماد على النفعية المحضة، والتعرّي من كل ضابط قيمي، والتعامل مع كل شيء بالتحايل والمراوغة والكذب والمبالغة، يفسد نفوس المشتركين في أية قضية، ويرهنها في النهاية بيد من هم أكثر قدرةً على المراوغة والتلاعب، وليس بيد من هم أكثر التزاماً بجوهر أهدافها.
• يتضمن الاعتقاد بأن الغاية تبرّر الوسيلة إخفاءً متعمداً لحقيقة بالغة الأهمية: أنّ الوسيلة نفسَها تعيد تشكيل الغاية، وأن القيم والمبادئ لا يمكن تعليقها ظرفياً ليُعاد تفعيلها لاحقاً، وأنه يصعب على سلوكٍ وخطاب منحطّين أن يُفضيا إلى نتيجة من جنسٍ آخر. اللجوء لوسائل تُناقض، في طبيعتها، الهدف الذي يسعى إليه أي حراكٍ أو مسعى، هو تمهيد صامت للتخلي عن الهدف الأصلي، واستبداله بشيء آخر، قد لا تظهر معالمه إلا بعد فوات الأوان.
• حتى اليوم، لا يزال كتاب ماكيافيللي "المير" نصّاً مقدساً في الإدارة السافلة للشأن العام، وربما لم تعرف المبادئ تشهيراً منهجيا بقيمتها كما عرفته على يد المذكور. ويقال أن موسوليني كان يستودع الكتاب بجانب سريره، وكأنه مصحف أو إنجيل. وكما في كل الأفكار النابعة من أقانيم التحلل الأخلاقي، هناك غواية ساحرة لطروحاتٍ كهذه، لأنها تخاطب مُركّبة الشر الفطرية داخل كل إنسان. "مِن الجيد أن لا تكون جيداً طوال الوقت، وليس سيئاً بالضرورة لو كنت أحياناً سيئاً". كثيرون طبعاً ليسوا بحاجة لقراءة ماكيافيللي حتى يتصرفوا بمقتضى أفكاره، فالماكيافللية كيمياء ذهنية، قبل أن تكون مُكتسباً ثقافياً. لكن المؤكد أن فكرة ربط النجاح والإنجاز بالتحلل من قيود الأخلاق تعزّزت ببركة هذا الكتاب القديم، وصار الطريق إلى الفشل والانزواء للهوامش يبدو لكثيرين مُعبّداً بالمبادئ الطيبة.
• بمرور الزمن، تُراكِم الأمم خبراتٍ عديدة، وتدفع في سبيلها أثماناً باهظة. وكي تحفظ دروسها من هذه الخبرات، وتنقلها إلى أجيالها اللاحقة فهي تشفّرها على هيئة مبادئ وقيم، عابرة للسياق، ومنفصلة عن الأحداث التي أنتجتها. ليست المبادئ ترفاً ذهنياً، بل صدىً لدروسٍ قديمةٍ تهدف، في المدى الطويل، إلى حفظ الخير العام للجماعة. وعلى نقيض ذلك، ليست أنماط السلوك التي تُسمى براغماتيةً أحياناً سوى اندفاعٍ للربح السريع والإنجاز الفوري. يتضمن التمسك بالمبادئ احتمالاً لألمٍ حاضر، صوناً لمصلحة أعمق لا تبدو ظاهرةً على الفور، وليست النفعية المتحللة من الأخلاق، في المقابل، أكثر من عجزٍ عن احتمال الألم الحاضر، أو شبق بالإشباع الفوري للرغبات.
• في فترة ما، اتُّهِم الموقف الداعي إلى رفض التسليح بالثورة السورية ورفض التدخل الدولي بأنه مثالية منفصلة عن الواقع، بل وحتى عمالة للنظام متدثرة بالمبادئ والمثاليات. وكان المبرر حادّاً ومضرجاً بالدم، فكيف يمكن أن ترى عشراتٍ يسقطون يومياً، وتملك صلف التنظير لقيم مخملية، لا تدرك فداحة الواقع. وكل ما ثبت بعد هذه السنوات العجاف أن ذلك الموقف المخملي كان أكثر المواقف واقعيةً ونفعية، وأنه كان الأقدر على صون دم الناس، وأن النتائج التي كان يمكن أن يفضي إليها التمسك بتلك المبادئ لن تكون، في أسوأ الأحوال، ببؤس النتيجة الحاضرة اليوم. لكن المأساة المتكرّرة في كل قضايانا هي الاستسلام لوطأة اللحظة، ولمزاودات تجار الدم وآلام الناس. مِن المفهوم أن مَن يعيش ظروف القهر المباشر قد يلجأ إلى أي ردٍّ ممكن، حتى لو كان ضارّاً به وبقضيته. لكن من غير المفهوم أن يُعينه على هذه الأذية الذاتية من لا يقع تحت وطأة القهر، ويشجعه، من بعيد، على الانغماس فيها، ويوفّر له كل السبل الممكنة للتورّط فيها أكثر.
• لا يكتسب التمسك بمبادئ أساسية في أي قضية أهميته من المبادئ وحدها، بل من أثر فعل التمسّك نفسه في صقل نفوس الناس، واستنهاض أحسن ما فيهم، وزيادة استعدادهم للتضحية. وإن تحييد المبادئ ووصمها بالمثاليات، والاعتماد على النفعية المحضة، والتعرّي من كل ضابط قيمي، والتعامل مع كل شيء بالتحايل والمراوغة والكذب والمبالغة، يفسد نفوس المشتركين في أية قضية، ويرهنها في النهاية بيد من هم أكثر قدرةً على المراوغة والتلاعب، وليس بيد من هم أكثر التزاماً بجوهر أهدافها.
• يتضمن الاعتقاد بأن الغاية تبرّر الوسيلة إخفاءً متعمداً لحقيقة بالغة الأهمية: أنّ الوسيلة نفسَها تعيد تشكيل الغاية، وأن القيم والمبادئ لا يمكن تعليقها ظرفياً ليُعاد تفعيلها لاحقاً، وأنه يصعب على سلوكٍ وخطاب منحطّين أن يُفضيا إلى نتيجة من جنسٍ آخر. اللجوء لوسائل تُناقض، في طبيعتها، الهدف الذي يسعى إليه أي حراكٍ أو مسعى، هو تمهيد صامت للتخلي عن الهدف الأصلي، واستبداله بشيء آخر، قد لا تظهر معالمه إلا بعد فوات الأوان.
مقالات أخرى
22 ديسمبر 2018
27 اغسطس 2018
13 مايو 2018