عن المعجم والإنسان

22 ديسمبر 2018
+ الخط -
• هناك قداسةٌ كامنة في المعاجم، تستمد نفسها من شيئين متعاكسين؛ أن المعجم لا يقول شيئاً محدّداً، وأنه بذات اللحظة يكاد يقولُ كلَّ شيء. كل كلامِنا رابضٌ فيه. كلامُ الله ثاوٍ فيه. شعر الشعراء، مراثي الراحلين، رسائل المتحابين، كل نصٍّ ترك علينا بصمة أو حرّك فينا انفعالاً. أجملُ ما سمعنا، وأقسى ما قرأنا. كل ما قيل وما لم يُقَل حتى الساعة، ولربما كل ما سيقال حتى قيام الساعة. ذلك كله محتشدٌ داخلَه. تلك هي معجزة المعجم، وتلك هي أيضاً لعنته وروعته وسر غوايته. بعض مَن يقرأون الآن يعرفون تماماً سحرَ الإمساك بقاموسٍ وفتحَ دفّتيه كيفما اتفق، وقراءة أول كلمةٍ تصادفنا. في البهجة والرهبة الكامنتين في هذا الطقس اللغوي الحميم يكمن كثيرٌ من سحر المعاجم في نفوسنا.
• أطلقت المنصة الإلكترونية لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية قبل أيام، ولو لم يكن لهذا المعجم إلا أنه معجمٌ لكان ذلك كافياً لشحن الحدث بأهمية خاصة. لكن المعجم هنا تاريخيٌّ أولاً، وعربيٌّ ثانياً. وهما عنصران يجعلان من معنى ما حدث أكبر بكثير من ظاهِر الحدث.
• يقتبس العاملون في فنون النحت والتماثيل قولاً قديماً، مفاده بأن في كل صخرةٍ تمثالاً كامناً، وأن مهمة الفنان أن يستلّه منها. هناك قدرٌ كبيرٌ من هذه الصورة في نحتِ قاموسٍ تاريخي. أمام إرثٍ لغويٍّ بهذه الضخامة، مكدّسٍ على نفسِه بقدر ما هو مبعثرٌ بين مصادره، يصبح استلالُ عملٍ معجمي فعلَ تخليق، لا فعل تنضيدٍ وتنظيم وفرزٍ كما يبدو للوهلة الأولى. من المفيد أن ينتبه المرء إلى أن هذا المعجم لم يُركَّب من معاجمَ قبلَه، ولم تُنسج عُراه من قواميسَ سابقة، وإنما ارتدّ كاتبوه إلى اللغة في حالتها الخام الأولى؛ في صِباها الغائرِ في بوادي الجزيرة؛ في نقوشها الباقية، وأشعارها البِكر، ومخطوطاتها التي كَتب اللهُ لها النجاة. وفي خضم هذه العودة إلى الأصول، كان لابد من اتخاذ قراراتٍ صعبةٍ في سرد قصة المفردة العربية. هناك أسئلة عويصة ينبغي أن تُواجَه حتى يصبح السرد ممكناً من الأساس.
ومهما بلغت الصرامة الأكاديمية في السعي للإجابات، فإن عنصراً إنسانياً حاضرٌ فيها على 
الدوام. هل تذهب مع المعنى الحرفي للمفردات الواردة في الشعر، أم تعتمد معانيها المجازية؟ وكيف ترسم الخطّ الفاصل أصلاً بين الاثنين؟ هل تأخذ بالمعاني الاصطلاحية للكلمات، أم تلتزم حصراً بمعانيها الحرفية؟ وكيف تتعاطى مع الأحاديث النبوية التي يُختلف في صحة نسبتها؟ كيف تواجه تباين النسبة للشعر القديم، وتفاوتَ سنوات التأريخ؟ وكيف تُعرّف ما يُعدّ عربياً بحقّ؟ أين ترسم الحدّ بين تعدد اللهجات وتباين اللغات؟ هذه وغيرها أسئلة مركزية في معركة إنشاء معجمٍ تاريخي للغة العربية. ولعلها فرصة للتأمل في معنى خوض المشاريع الكبرى، حيث الهواجس الأولى والأسئلة الثقيلة تستبدّ بالإنسان وتجعل من الإقدام أمراً مرعباً. كتب شكسبير في مسرحيةٍ له يوماً عمّن يبتلعهم الخوف قبل ساعة النزال: "في خضمّ المواجهة، ستحضرُكَ الجرأة". ومَن قرّروا خوض غمار هذه المعركة المعجمية كانوا ولا شك مدركين حدسياً لهذه السجيّة القتالية. ذاك أن أموراً جليلةً كثيرةً في هذه الدنيا تبدأ بقفزة في الظلام، لا يَسندُ مقتحِمِيها يقينٌ تامٌّ بالنجاح، وإنما إيمانٌ كامنٌ بحَولِ الله وقوته، وحدسٌ مبهمٌ بالطريق.
• لعلّ أخطرَ ما في المعاجم أنها أخطرُ مما تدّعي، تماماً كما أن أجملَ ما فيها أنها أكثرُ مما فيها. بعكس ما يبدو، ليس المعجم أداةَ رصدٍ صمّاء لمعنى الكلام ودلالة الألفاظ. مَن أشرفوا على هذا المعجم التاريخي وقادوا دفّته، اتخذوا قراراتٍ تَحدَّد بضوئها تاريخُ كل لفظٍ من الألفاظ. كل معجمٍ في هذا العالم، في خضم انهماكه في رصد المفردات ومعانيها، يُعيد خلق اللغة ويتركها في مكانٍ غير الذي كانت عليه. ما يميّز هذا المعجم أنه، عملياً، أوسع وأعمق
 عمليةِ إعادة تخليق لمعنى العربية منذ زمنٍ طويل. وليس هذا شحناً للموضوع بعاطفيةٍ من أي نوع، فحتى في العلوم الفيزيائية، فإن فعل الرصد ينعكس دوماً على المرصود، ويؤثر فيه، ولهذا ففي فكرة القياس والسبر عنصرٌ مستحيلٌ يستمد استحالته من وضعٍ يكاد يبدو أسطورياً؛ أنك كلما حاولت أن تقيس شيئاً وترصده، غيّرت شيئاً فيه من حيث أردت أو لم ترد. مِن هذه الطبيعة الزّلقة في فعل الرصد، يكمن أهم وأخطر ما في المعجم التاريخي، فهذه مهمةٌ لا يمكن أن يُسلَّم زمامُها إلا لأعتى المتمرّسين في معنى العربية ومبناها. ومن يرى اسماً كرمزي منير بعلبكي على رأس المجلس العلمي للمعجم سيجني طمأنينة ما بهذا الخصوص.
• يأتي هذا المعجم فيما الناطق بالعربية يعيش انكساراً مُركَّبا على كل الجبهات، ولم يعد في حنجرته ركنٌ يتسع لغير المرارة. لقد حصلت مُصادرةٌ منهجية لآمال الناس خلال السنين الماضية، وكانت التتمة الطبيعية لهذا كله أن يشيع الكفرُ بيننا؛ ليس الكفر بالله، وإنما الكفر بالقيمة والمعنى، وجدوى كل شيء. مِن وسط هذا التردّي العام، يأتي هذا المعجم متمرّداً على السياق. ماذا بقي لنا غير هذه اللغة. ولعلها من رأفة الله أن آخرَ ما تبقّى لنا هو أجملُ وأنبل ما كان فينا على الدوام. هذه هي الصخرة التي يرتدّ لها الإنسان في ساعة العسر الكبيرة. ويكفي هذا المعجمَ قيمةً أنه يُعيد إلى قرّائه، المنكسرين في عمومهم، إيمانَهم بأجمل ما فيهم، وآخِرِ ما تبقّى لهم.
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
عوني بلال
عوني بلال