24 سبتمبر 2020
هل لا يزال حلم الثورة ممكناً؟
عندما نتحدث في مصر عن الثورة، وحلمها، قد ينصرف ذهن القارئ تلقائياً إلى ما جرى في 25 يناير/كانون الثاني 2011، وما أعقبها، وهو أمر منطقي، فمنذ ذلك التاريخ، ليس لدينا حديث غير حديث الثورة، ولا صوت يعلو على صوت الثورة. الكل يرفع شعار الثورة ويتحدث باسمها، وأعني كل الفئات والطوائف والقوى والتيارات والتنظيمات والأحزاب، وحتى مؤسسات الدولة نفسها التي من المفترض أن الثورة قامت ضدها. ويجد الباحث نفسه في حيرة شديدة في محاولة رصد ما جرى وتحليله؟ فمن قام بتلك الثورة؟ وقام بها ضد من بالضبط؟ سيجد الباحث، في البداية، أنه أمام الشباب والنشطاء، والذين شكلوا ما عرف بائتلافات شباب الثورة، وغالبيتهم من الليبرال، واليسار، والاشتراكيين، والتروتسكية، يقولون إنهم من فجروا الثورة يوم 25 يناير، وأصحاب الفضل والحق فيها؟ فينبري شباب الإخوان المسلمين وكوادرهم ليقولوا، كنا معكم، ونحن من أشعل جذوة الثورة الحقيقية يوم 28 يناير، يوم جمعة الغضب، وانهيار الشرطة وما أعقبها من فتح السجون واقتحام الأقسام وإعلان الفراغ الأمني بالانسحاب الممنهج لكل أجهزة الشرطة من كل أوجه الحياة في بر مصر. وفى اليوم نفسه، كان قرار نزول الجيش الى الشارع، للحفاظ على مؤسسات الدولة ومقوماتها، وهنا يخرج من يقول إن الجيش هو من حمى الثورة، وأصبح شريكاً فيها، بل وصل الأمر إلى حد القول إنه لا هؤلاء ولا أولئك، بل الفضل لعناصر قادمة من الخارج من حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني، هي من فجرت الموقف في 28 يناير، وأدت إلى انهيار الشرطة، ولأن ثورة واحدة لا تكفي؟ بالنسبة للمصريين، تم ترتيب ثورة ثانية، لمن فاتتهم فرصة الثورة الأولى، وكان 30 يونيو و3 يوليو، وليصبح لدينا ثورتان في أقل من ثلاثة أعوام، فمن لم يلحق مكاناً في الثورة الأولى سيجده في الثانية، وهناك من لم يلحق بالثانية، واعتبرها انقلاباً على الأولى، فتم تصنيفه مارقاً، أو خائناً، أو من الخوارج، ثم تطور الأمر ليصنف إرهابياً، وهؤلاء يحلمون بثورة ثالثة.
ولم يعد أحد يعرف على وجه الدقة. من ثار على من؟ ولا ما هي أهداف تلك الثورات، وما الذي تحقق منها وما لم يتحقق؟ ولكن، ما هو مؤكد أن دماء كثيرة قد أريقت، وضحايا كثيرين قد سقطوا.
وبقيت الدولة، بكل أبعادها العميقة وغير العميقة، كما هي، بكل مؤسساتها السيادية، وغير السيادية، العسكرية، والمدنية. نعم تغيرت بعض الوجوه، ولكن من دون أي تغيير في المضمون، مضمون النظام والرچيم.
على الرغم من ذلك كله، فليس هذا فقط هو "حلم الثورة" الذى أقصده، لأن الأحداث على أرض الواقع تقول لنا إن ما جرى في 25 يناير بدأ في شكل انتفاضة غضب، لتسجيل موقف وإحراز بعض المكاسب، تطورت إلى إرهاصة ثورية، إذا جاز التعبير، وإن كان قد تم احتواؤها بحنكة، عندما تخلى مبارك عن منصبه، تلك الإرهاصة الثورية أيقظت في الوجدان المصري الشعبي حلم "الثورة" القديم، ثورة تطلع إليها الشعب، منذ أكثر من مائتي عام، وظل الحلم متوارثاً جيلا بعد جيل، وإن كان كامنا في اللاوعي، أو العقل الباطن، يستيقظ في ظروف تاريخية معينة، يحرز بعض النجاحات أحياناً، ويخفق في أحيان كثيرة. لكن، أبداً لم يكتمل تحقيق الحلم، فيعود، في كل مرة، ليكمن في أعماق الوجدان المصري.
هذا هو حلم الثورة الذي أعنيه، والذي كان مولده في وجدان الشعب المصري في عصره الحديث، في أعقاب الصدمة الحضارية التي تسببت فيها الحملة الفرنسية (1798-1801) فبعد اندحار المماليك أمام نابليون، وتخاذل دولة الخلافة العثمانية، صاحبة السيادة على مصر، وجد المصريون أنفسهم، أول مرة، وجها لوجه مع المحتل الفرنسي أو "الفرنجة"، بعد أن تخلى عنهم الجميع، فكانت ثورتهم في وجه الفرنسيس، والتي عرفت بثورة القاهرة الأولى، أكتوبر - ديسمبر 1798، ثم ثورة القاهرة الثانية مارس - إبريل 1800.
وتعرضت الثورتان لقمع شديد من الفرنسيين، ولكن، بقيت الجذوة مشتعلة في النفوس، وظهرت إرهاصات الثورة من جديد، بعد رحيل الحملة الفرنسية وعودة السيادة العثمانية، وتجبر الولاة، فكانت ثورة شعبية عارمة ضد الوالي خورشيد باشا في 1805، وحاصرته جموع الشعب في القلعة، وكاد الشعب أن يفرض إرادته لولا تخاذل زعمائه "نخبة ذلك الزمان"، وتجنبهم تحمل المسؤولية، حيث توجهوا إلى قائد إحدى الأورط العسكرية العثمانية، وهو محمد علي، وعرضوا عليه الحكم، وألبسوه خلعة الولاية، وأرسلوا إلى السلطان يطلبون تثبيته، وقد كان. تولى محمد على ولاية مصر برضى نخبتها، وأنشأ دولته فيها، وقضى على كل من ساعدوه من زعماء الشعب "النخبة"، وكل من عارضوه من بقايا المماليك، وخبت شعلة ثورة الشعب التي دخلت في حالة كمون طويل، وكأنه استسلم لقدره في ظل سطوة محمد على وخلفائه. ولم يستيقظ حلم الثورة، إلا بعد ما يقرب من 70عاماً، فيما عرف بالحركة العرابية التي بدأها القائمقام أحمد عرابي بمطالب إصلاحية، عرضها على الخديوي توفيق في مظاهرة عسكرية أمام قصر عابدين سبتمبر 1881، ثم تطورت إلى إرهاصة ثورية لم تكتمل، وانتهت بالاحتلال البريطاني لمصر 1882.
ورجع حلم الثورة إلى حالة الكمون، وطالت فترة الكمون في تلك المرة من 1882 وحتى 1919، عندما استيقظ الحلم من جديد، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتطلع الشعوب للاستقلال، فجر الحلم سعد زغلول وصحبه، وانطلقت الجماهير في ثورتها التي استمرت نحو ثلاث سنوات، ومرة أخرى، تتقدم "نخبة ذلك الزمان" لتتفاوض مع سلطات الحماية والاحتلال، وينتهي الأمر بتصريح 28 فبراير والاستقلال الشكلي المنقوص، وليتوقف حلم الثورة من جديد.
كان على مصر الانتظار 30 عاماً حتى يوليو 1952، عندما وقعت حركة الضباط الأحرار، أو الحركة المباركة التي أيقظت حلم الثورة الشعبية من جديد، فإذا كان القائمقام أحمد عرابي قد بدأ حركته، بقيادة قواته والتوجه إلى ساحة القصر لمخاطبة الخديوي توفيق، وانتهت الحركة بالهوجة والاحتلال البريطاني، فإن البكباشي جمال عبد الناصر بدأ حركته "المباركة" بالاستيلاء على قيادة الجيش، وإعلان بيان الحركة من مقر القيادة، ثم الاتجاه إلى قصر رأس التين، وفيه الملك فاروق، ابن أخ الخديوى توفيق، وإجباره على التنازل عن العرش، ومغادرة البلاد.
أيقظت الحركة المباركة في وجدان المصريين حلم الثورة، والتقط عبد الناصر الحلم بعبقرية، فحول الحركة المباركة إلى الثورة المجيدة، على أن يكون هو القائد والزعيم الملهم الذي سيقوم بالعمل كله. وكان على جماهير الشعب أن تسلم قيادها إلى الزعيم الخالد، أبو خالد، وخلفائه من بعده. وبالطبع، عاد "حلم الثورة" بمعنى فرض إرادة الشعب إلى الكمون الذي طال هذه المرة، ليصل إلى قرابة ستين عاماً، لأسباب وعوامل عديدة، ليس هذا مجالها، حتى جاءت لحظة 25 يناير التي أشرنا إليها، فاستيقظ الحلم من جديد، لكنه، كالعادة، لم يكتمل، وإن كان لم يخب تماماً، ولم يدخل بعد في طور من أطوار الكمون الطويل التي اعتادها؟
فهل يدرك المصريون البسطاء، الذين توارثوا الحلم عبر كل تلك السنين، ذلك، ويتوقفون، جميعاً، ولو فترة قصيرة، عن حالة التشابك العنيف فيما بينهم، لتقييم ما جرى، وواقع ما وصل إليه الحال، وآفاق المستقبل؟ بشرط التخلي عن الأوهام والأفكار الميتافيزيقية التي تملأ سماء الفضائيات في عروض الـ "وان مان شو" من كل الاتجاهات، والتي وصلت إلى مستوى يرثى له.
على أقل تقدير، هل يفعل ذلك كل منّا مع نفسه على حدة؟ حتى نتمسك بأطراف الحلم، ولا ندعه يفلت منا إلى بئر الكمون العميق، وليبقى "حلم الثورة" ممكناً، حتى لو احتفظنا به جيلاً أو أجيالاً تأتى بعدنا، تكون قادرة على تحقيقه.
وبقيت الدولة، بكل أبعادها العميقة وغير العميقة، كما هي، بكل مؤسساتها السيادية، وغير السيادية، العسكرية، والمدنية. نعم تغيرت بعض الوجوه، ولكن من دون أي تغيير في المضمون، مضمون النظام والرچيم.
على الرغم من ذلك كله، فليس هذا فقط هو "حلم الثورة" الذى أقصده، لأن الأحداث على أرض الواقع تقول لنا إن ما جرى في 25 يناير بدأ في شكل انتفاضة غضب، لتسجيل موقف وإحراز بعض المكاسب، تطورت إلى إرهاصة ثورية، إذا جاز التعبير، وإن كان قد تم احتواؤها بحنكة، عندما تخلى مبارك عن منصبه، تلك الإرهاصة الثورية أيقظت في الوجدان المصري الشعبي حلم "الثورة" القديم، ثورة تطلع إليها الشعب، منذ أكثر من مائتي عام، وظل الحلم متوارثاً جيلا بعد جيل، وإن كان كامنا في اللاوعي، أو العقل الباطن، يستيقظ في ظروف تاريخية معينة، يحرز بعض النجاحات أحياناً، ويخفق في أحيان كثيرة. لكن، أبداً لم يكتمل تحقيق الحلم، فيعود، في كل مرة، ليكمن في أعماق الوجدان المصري.
هذا هو حلم الثورة الذي أعنيه، والذي كان مولده في وجدان الشعب المصري في عصره الحديث، في أعقاب الصدمة الحضارية التي تسببت فيها الحملة الفرنسية (1798-1801) فبعد اندحار المماليك أمام نابليون، وتخاذل دولة الخلافة العثمانية، صاحبة السيادة على مصر، وجد المصريون أنفسهم، أول مرة، وجها لوجه مع المحتل الفرنسي أو "الفرنجة"، بعد أن تخلى عنهم الجميع، فكانت ثورتهم في وجه الفرنسيس، والتي عرفت بثورة القاهرة الأولى، أكتوبر - ديسمبر 1798، ثم ثورة القاهرة الثانية مارس - إبريل 1800.
وتعرضت الثورتان لقمع شديد من الفرنسيين، ولكن، بقيت الجذوة مشتعلة في النفوس، وظهرت إرهاصات الثورة من جديد، بعد رحيل الحملة الفرنسية وعودة السيادة العثمانية، وتجبر الولاة، فكانت ثورة شعبية عارمة ضد الوالي خورشيد باشا في 1805، وحاصرته جموع الشعب في القلعة، وكاد الشعب أن يفرض إرادته لولا تخاذل زعمائه "نخبة ذلك الزمان"، وتجنبهم تحمل المسؤولية، حيث توجهوا إلى قائد إحدى الأورط العسكرية العثمانية، وهو محمد علي، وعرضوا عليه الحكم، وألبسوه خلعة الولاية، وأرسلوا إلى السلطان يطلبون تثبيته، وقد كان. تولى محمد على ولاية مصر برضى نخبتها، وأنشأ دولته فيها، وقضى على كل من ساعدوه من زعماء الشعب "النخبة"، وكل من عارضوه من بقايا المماليك، وخبت شعلة ثورة الشعب التي دخلت في حالة كمون طويل، وكأنه استسلم لقدره في ظل سطوة محمد على وخلفائه. ولم يستيقظ حلم الثورة، إلا بعد ما يقرب من 70عاماً، فيما عرف بالحركة العرابية التي بدأها القائمقام أحمد عرابي بمطالب إصلاحية، عرضها على الخديوي توفيق في مظاهرة عسكرية أمام قصر عابدين سبتمبر 1881، ثم تطورت إلى إرهاصة ثورية لم تكتمل، وانتهت بالاحتلال البريطاني لمصر 1882.
ورجع حلم الثورة إلى حالة الكمون، وطالت فترة الكمون في تلك المرة من 1882 وحتى 1919، عندما استيقظ الحلم من جديد، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتطلع الشعوب للاستقلال، فجر الحلم سعد زغلول وصحبه، وانطلقت الجماهير في ثورتها التي استمرت نحو ثلاث سنوات، ومرة أخرى، تتقدم "نخبة ذلك الزمان" لتتفاوض مع سلطات الحماية والاحتلال، وينتهي الأمر بتصريح 28 فبراير والاستقلال الشكلي المنقوص، وليتوقف حلم الثورة من جديد.
كان على مصر الانتظار 30 عاماً حتى يوليو 1952، عندما وقعت حركة الضباط الأحرار، أو الحركة المباركة التي أيقظت حلم الثورة الشعبية من جديد، فإذا كان القائمقام أحمد عرابي قد بدأ حركته، بقيادة قواته والتوجه إلى ساحة القصر لمخاطبة الخديوي توفيق، وانتهت الحركة بالهوجة والاحتلال البريطاني، فإن البكباشي جمال عبد الناصر بدأ حركته "المباركة" بالاستيلاء على قيادة الجيش، وإعلان بيان الحركة من مقر القيادة، ثم الاتجاه إلى قصر رأس التين، وفيه الملك فاروق، ابن أخ الخديوى توفيق، وإجباره على التنازل عن العرش، ومغادرة البلاد.
أيقظت الحركة المباركة في وجدان المصريين حلم الثورة، والتقط عبد الناصر الحلم بعبقرية، فحول الحركة المباركة إلى الثورة المجيدة، على أن يكون هو القائد والزعيم الملهم الذي سيقوم بالعمل كله. وكان على جماهير الشعب أن تسلم قيادها إلى الزعيم الخالد، أبو خالد، وخلفائه من بعده. وبالطبع، عاد "حلم الثورة" بمعنى فرض إرادة الشعب إلى الكمون الذي طال هذه المرة، ليصل إلى قرابة ستين عاماً، لأسباب وعوامل عديدة، ليس هذا مجالها، حتى جاءت لحظة 25 يناير التي أشرنا إليها، فاستيقظ الحلم من جديد، لكنه، كالعادة، لم يكتمل، وإن كان لم يخب تماماً، ولم يدخل بعد في طور من أطوار الكمون الطويل التي اعتادها؟
فهل يدرك المصريون البسطاء، الذين توارثوا الحلم عبر كل تلك السنين، ذلك، ويتوقفون، جميعاً، ولو فترة قصيرة، عن حالة التشابك العنيف فيما بينهم، لتقييم ما جرى، وواقع ما وصل إليه الحال، وآفاق المستقبل؟ بشرط التخلي عن الأوهام والأفكار الميتافيزيقية التي تملأ سماء الفضائيات في عروض الـ "وان مان شو" من كل الاتجاهات، والتي وصلت إلى مستوى يرثى له.
على أقل تقدير، هل يفعل ذلك كل منّا مع نفسه على حدة؟ حتى نتمسك بأطراف الحلم، ولا ندعه يفلت منا إلى بئر الكمون العميق، وليبقى "حلم الثورة" ممكناً، حتى لو احتفظنا به جيلاً أو أجيالاً تأتى بعدنا، تكون قادرة على تحقيقه.