القضية الفلسطينية وبداية النهاية
أخيراً، وبعد أكثر من مائة عام على صدور وعد بلفور الذي أعلنت فيه بريطانيا تأييدها إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وما أعقب ذلك من الاحتلال البريطاني الأراضى الفلسطينية في عام 1917، ومن ثم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني رسمياً في عام 1922، ونشأة "القضية الفلسطينية"، والتي تطورت إلى "الصراع العربي – الإسرائيلي" منذ عام 1948، بعد إعلان قيام "دولة إسرائيل" وبداية جولات الحروب العربية – الإسرائيلية، والتي كان آخرها حرب أكتوبر 1973... أخيراً، وبعد مسيرة طويلة، ومريرة، من الصراع والحروب والدماء والدمار والنزوح والتهجير والإحلال والاحتلال، أخيراً، وبعد ذلك كله، يبدو أن هناك تطوراً محورياً تشهده القضية، بل تشهده المنطقة العربية خصوصاً، ومنطقة الشرق الأوسط عامة، يتمثل في إعلان الرئيس الأميركي، ترامب، في البيت الأبيض في 13 أغسطس/ آب 2020، توصل مجموعة عمل أميركية - إسرائيلية - إماراتية مشتركة إلى صياغة اتفاق سلام بين كل من دولة العدو الإسرائيلي ودولة الإمارات، واعتبر ذلك إنجازاً تاريخياً، سيفتح الباب أمام عصر جديد في الشرق الأوسط.
أعقبت إعلان ترامب تصريحات فورية من كل من رئيس حكومة دولة الاحتلال، نتنياهو، وولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، لتأكيد ما صرح به ترامب، وإن اختلفت الصياغات بينهما، فقد جاء تصريح بن زايد عبر تغريدة تذكر أن الاتفاق تم على أساس موافقة إسرائيل على إيقاف مشروع ضم أراضٍ في الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية، أي أن الاتفاق جاء في صالح القضية الفلسطينية، ولكن ردّاً فورياً جاء من نتنياهو علناً ينفي ذلك جملة وتفصيلاً، ويعلن نتنياهو، في صلف وتحدٍّ، أنه لا تغيير في برنامج حكومته الخاص لضم الأراضي الفلسطينية إلى إسرائيل، وكل ما في الأمر مجرد "تريث" أو تأجيل مؤقت، بناء على تنسيق مع الرئيس ترامب، ولا شأن للاتفاق مع الإمارات بهذا الأمر، وأن هذا الاتفاق هو اتفاق "السلام.. مقابل السلام، والسلام من منطلق القوة.."، أي لا شأن للقضية الفلسطينية به.
يبدو أن تطوراً محورياً تشهده القضية، بل تشهده المنطقة العربية خصوصاً، ومنطقة الشرق الأوسط عامة
تراوحت ردود الأفعال حول ذلك التطور المحوري في علاقات إسرائيل بدول المنطقة، ما بين التأييد والتحفظ والصمت والرفض والتنديد. جاء التأييد من بعض النُظم ذات العلاقات الحميمة مع أميركا وأطراف الاتفاق. وجاء التحفظ من نُظم حريصة على الاحتفاظ بعلاقات ودّية مع تلك الأطراف. والتزمت نُظم الصمت، وهي الأكثر، ولعل الصمت الأكبر، والأكثر إثارة، من جامعة الدول العربية. وجاء الرفض والتنديد، أساساً، من الجانب الفلسطيني بمختلف توجهاته، السلطة في رام الله والمقاومة في غزة، بالإضافة إلى عدد محدود للغاية من الدول ذات المواقف الثابتة، وموجةٍ من الرفض الشعبي العارم. وفي وسط كل ردود الأفعال تلك، بدأ تحرّك أميركي نشط في المنطقة، يقوده وزير الخارجية ومستشار الرئيس الأميركي وصهره، جاريد كوشنر، منسق خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط (صفقة القرن). ويهدف ذلك التحرّك إلى توسيع عملية السلام بين إسرائيل ودول عربية، بالتحديد بعض دول الخليج والسودان والعربية السعودية.
تراوحت ردود الأفعال حول التطور المحوري في علاقات إسرائيل بدول المنطقة ما بين التأييد والتحفظ والصمت والرفض والتنديد
في وسط كل ذلك الزخم من الأفعال وردود الأفعال، يُصرّ رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، على أن العلاقات القادمة مع دول عربية تأتي فى إطار "السلام.. مقابل السلام، والسلام من منطلق القوة.."، ولا مجال للحديث عن الأرض، ولا عن حقوق الشعب الفلسطيني، ولا عن القدس. وتوارى مصطلح القضية الفلسطينية تماماً، وطغى على المشهد مصطلحا التطبيع والتعاون، بل وأحياناً التحالف، خصوصاً في مواجهة العدو المفترض الجديد، إيران.
ماذا بقي من القضية الفلسطينية؟ القضية التى ظلت صامدة أكثر من قرن، على الرغم من كل ما تعرّضت له من هزائم وإحباطات، بدءاً من عمليات الهجرة اليهودية المبكّرة وإقامة الكيبوتزات الصهيونية على الأراضي الفلسطينية، في ظل الانتداب البريطاني، إلى عمليات التهجير القسري للفلسطينيين من قراهم وبلداتهم، إلى إعلان قيام دولة الكيان الإسرائيلي في عام 1948، وهزيمة الجيوش العربية، وبقيت القضية الفلسطينية، على الرغم من تلك الهزيمة، وما ترتب عليها من تحول قرابة نصف الشعب الفلسطيني إلى لاجئين داخل أرضهم وخارجها، وعلى الرغم من تفتيت الهوية الفلسطينية، بضم الضفة الغربية إلى الأردن، ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية. ورفع العرب شعاراً هو تحرير فلسطين، من دون تحديد مضمون واضح له. ولم يفكّر أحد من العرب في إقامة كيان فلسطيني على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة الذي احتلته إسرائيل فى إطار حرب السويس 1956، ثم انسحبت منه في العام التالي، وعاد إلى الإدارة المصرية، وبقيت "القضية الفلسطينية"، وبقي شعار تحرير فلسطين قائماً. ثم وقعت حرب يونيو/ حزيران 1967، والهزيمة العربية المروعة، واحتلت إسرائيل كل أراضي فلسطين التاريخية، الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وما زالت محتلة، ثم انسحب الاحتلال من المحيط الداخلي لقطاع غزة فقط، وأبقاه تحت الحصار، ومع ذلك بقيت "القضية الفلسطينية". وقعت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وعملية السلام المصرية – الإسرائيلية، وبقيت القضية. وتوصلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو)، وأعقبته معاهدة السلام الإسرائيلية – الأردنية. وعلى الرغم من ذلك كله، بقيت القضية الفلسطينية قائمة. جاء ترامب، وطرح مشروعه (صفقة القرن)، بدعوى تسوية نهائية للقضية الفلسطينية في إطار مشروع سلام شامل فى المنطقة.
أحداث وتطورات جعلت فكرة "القضية الفلسطينية" تهتز بشدة، وأصبحت القضية عرضةً للتصفية الحقيقية
ماذا بقي من القضية الفلسطينية؟ وحتى طرح "صفقة القرن" بقيت القضية الفلسطينية حية في الوجدان العربي، وقضية القدس حية في الوجدانين الإسلامي والمسيحي عامة، ولكن سلسلة من الأحداث المتسارعة بدأت تجري على أرض الواقع، برعاية أميركية مباشرة، أولها تصديق ترامب على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، ثم اعتراف أميركا بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية، ثم اعترافها بحق إسرائيل في مستوطنات الضفة الغربية، ثم طرح مشروعات السلام مقابل التنمية الاقتصادية في ورش البحرين ومؤتمر وارسو، ثم جاء إعلان نتنياهو خطة ضم أراضٍ في الضفة الغربية والحديث عن الضفة كلها باعتبارها "يهودا والسامرة" الإسرائيلية. وقد جعلت كل تلك الأحداث فكرة "القضية الفلسطينية" تهتز بشدة، وأصبحت القضية عرضةً للتصفية الحقيقية. وجاءت الأحداث أخيراً بالتحرّك الأميركي نحو ترتيب عملية اتفاقيات سلام إسرائيلية مع دول عربية خارج إطار القضية الفلسطينية، مع تجاوب واضح، بل وترحيب، من تلك الدول، لتأكيد ذلك.
هل نحن أمام "بداية النهاية" لما اصطلحنا على تسميتها، على مدى قرن، "قضية العرب المركزية"؟ وهل أصبح على الفلسطينيين البحث عن طريق جديد للحصول على حقوقهم المشروعة، بديلاً عن طريق العرب والعروبة؟ وهل يدرك الفلسطينيون ذلك؟