هامش الحقيقة وهامش الحياة

25 اغسطس 2015
لوحة للفنان المغربي محمد السالمي
+ الخط -
إنني لا أؤمن بالعبث، وأرى أن لا شيء يمكن أن يكون بلا معنى، خصوصًا إذا كان هذا الشيء صرخة أملتها المعاناة الإنسانية الصادقة، وذلك في ظرف تاريخي دقيق وخطير. ولقد رأيت أنه لا بدّ من أن أصرخ، تمامًا كما صرخت لحظة الولادة، لأقول لكل الناس إنني موجود، وإنني حي، وإن علامة وجودي وحياتي أنني أستطيع أن أكسر هذا الصمت المخيف والمرعب، وأن أحدث صخبًا معبرًا في هذا الفضاء الصامت والراكد. ولقد وصل هذا الصراخ درجة الكتابة، وكان عبارة عن رسائل إلى من يهمه الأمر، وأعتقد أن أكثر هذه الرسائل قد قرئت وفهمت، بدليل أنني ما زلت على قيد الكتابة، وأنني ما زلت أشتغل كاتبًا عموميًا للتعبير عنى القضايا الإنسانية العامة.
وأعتقد أن مصير المثقف، ليس في العالم العربي فحسب، هو مصير سيزيفي، وهو محكوم بالنظر إلى الأعلى وإلى الأسمى دائمًا، وهو محكوم بعشق القمة البعيدة والمستحيلة، وليس سهلًا أبدًا الوصول إلى هذه القمة بين عشية وضحاها. وهو محكوم أيضًا بأن يعاود الفعل نفسه لحظة بعد أخرى، ويومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام إلى ما لا نهاية. ولعل أكبر عدو للإنسان المبدع، في هذه المخاطرة السيزيفية الوجودية، هو الإحساس باليأس، أو بالخيبة، أو بالإحباط، باللاجدوى أو باللامعنى. وأتذكر ما قاله الشاعر الغنائي الكبير أحمد رامي، الذي يعكس هذا المصير السيزيفي الذي لا يمكن إلا الترحيب به:
"العمر فات / في أمل وخيال/ والقلب مات / من كثر ما مال / وفضلت بعد الملل/ عندي أمل/ في الأمل".
نعم، رغم كل شيء، فنحن لا نملك إلا هذا الأمل، وبه نعيش ونحيا، وذلك في انتظار الذي قد يأتي أو لا يأتي، والمهم في كل هذا هو الحضور، الآن هنا، وهو السير باتجاه الأعلى، وباتجاه ما نعتقد أنه الحق والحقيقة، وأنه الجمال والكمال.

اقرأ أيضاً: مختارات من "خواطر الصباح"

نحن فعلا صرخنا، ولكن، هل استمعوا إلينا؟ هل وصلتهم احتجاجاتنا؟ هل قرأوا رسائلنا؟ هل فهموها واستوعبوا قصدها؟ شخصيًا، لا يهمني طرح مثل هذه الأسئلة، وما يعنيني أساسًا هو أن أقول كلمتي وأمشي إلى الأمام، ولقد قلتها وكتبتها، وأعدت قولها وكتابتها، وذلك على امتداد عقود طويلة جدًا، وأحمد الله أنني لم أتعب، ولم يتسرّب اليأس إلى قلبي ونفسي. وكثيرة هي الجهات التي اعتقدت بأنني سأمل من قول الحقيقة، وبأن هذه "الحقيقة" الاحتفالية قد يلحقها القدم يومًا، وتصبح في ذمة التاريخ، ولقد فاتهم أن يعرفوا أن الحقيقة متجددة دائمًا، وفي الوقت الذي انتظر الجميع أن تموت هذه الاحتفالية، فقد خرجت لهم باسم جديد هو اسم "الاحتفالية المتجددة"، وكان هذا من خلال كتاب جديد نشرته الهيئة العربية للمسرح ويحمل عنوان "البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة".
وإذا كان الآخر القارئ لا يقرأ شيئًا، فما ذنبي أنا؟ وإذا كان الناقد المسرحي غائبًا أو مغيبًا أو في غيبوبة، فالمسألة تخصّه وحده، ولا تعنيني أنا، وإذا كان المسؤول في السلطة الثقافية المغربية والعربية، لا يقدّر قيمة التوصيات التي نقدّمها له بالمجان، فإن هذا لا يمكن أن يكون له سوى معنى واحد، وهو أن هذا المسؤول غير مسؤول، وأنه لا يعرف طبيعة مسؤوليته، ولا يقدر حدودها وخطورتها، ولا يبادلنا الخوف والقلق نفسيهما على مصير هذه الأمة في هذا الظرف التاريخي الصعب.
أما بخصوص فئة المثقفين، فيمكن أن أؤكد أنها ـ في أغلبها ـ تعيش على هامش الحقيقة، وتحيا على هامش الحياة، وتنفعل على هامش الواقع، وعلى هامش التاريخ، وهي لا ترى في الأفكار إلا الأسماء، وتنشغل بحجم المبدعين ولا تهتم بحجم إبداعاتهم، وأن الأمر يحتاج فعلًا إلى ربيع عربي حقيقي، ربيع يعيد ترتيب كل شيء في حياتنا اليومية، ويعيد الاعتبار للعقل والمنطق، ويعمل على تأسيس الخرائط العربية الجديدة في هذا العالم الجديد، وبغير هذا، فإن تغيير الأسماء والزعماء لن يغير شيئا، ورحيل الطغاة لا يمكن أن يرحل الطغيان، وتغيير النظام السياسي وحده لا يكفي، ونحن في حاجة إلى تغيير نظام الحياة كله ـ بكل مكوناته ـ بشكل جذري، وبغير هذا، سنظل نراوح مكاننا، ولن نخرج من درجة الصفر التي وضعنا أنفسنا ودولنا فيها.
المساهمون