رغم حضور فلسطين في أعماله الروائية، وانشغاله بثيمات حية في الفضاء العربي مثل العلاقة بالآخر والسياسات الأميركية في العالم، يظل الكاتب والأكاديمي نيل غوردون (1958-2017) واحداً من كتّاب كثر غائبين عربياً سواء على مستوى تداول أفكارهم أو ترجمة نصوصهم. وفي حالة غوردون لم تصل أي من رواياته الأربع إلى العربية بعد، إلى رحيله الأحد الماضي في نهاية عقده الخامس بعد معاناة مع المرض.
اهتم غوردون بالقضية الفلسطينية ودرّس وكتب عنها في السنوات الأخيرة بشكل مكثف، حيث كان يعمل كأستاذ للكتابة الإبداعية في كلية "The New School" المعروفة في نيويورك.
لم يقتصر عمل غوردون على التدريس الأكاديمي والكتابة الإبداعية، إذ عمل في مجال النشر والنقد الأدبي وقدّم مراجعات كتب لصحف ومجلات أميركية معروفة، وهو مجال عمل فيه لسنوات طويلة حيث كان ضمن فريق "The New York Review of Books" وكان المحرّر المؤسّس لقسم مراجعة الأدب لمجلة "The Boston Review".
وعلى الرغم من حمله شهادة دكتوراه في الأدب الفرنسي من "جامعة ييل" إلا أن تدريسه وكتاباته انشغلت كثيراً في "التقاطع بين الفرد والتاريخ السياسي الذي يحيطه وتتناوله الأعمال الأدبية ناهيك عن الرمزية وتناول الأدب للتجربة السياسية والتاريخية" كما يقول عن نفسه في أحد لقاءاته. كما انشغل بالمقالة (Essay) التي جمعت السياسي بالثقاقي.
الناظر إلى تاريخ حياته الشخصية، قد يفهم هذا الانشغال المكثف في التقاطع بين السياسة والأدب. فغوردون ولد في جنوب أفريقيا سنة 1958 لعائلة يهودية هربت من لتوانيا إلى تلك البلاد خوفاً من ويلات النازية وملاحقتها ليهود أوروبا، قبل الحرب العالمية الثانية.
كانت أسرته من العائلات البيضاء التي عارضت نظام الفصل العنصري هناك، كما كان يصرّح. في الثالثة من عمره، هاجر مع والديه إلى الولايات المتحدة الأميركية التي استقر فيها على الرغم من عيشه لفترات مختلفة في دول أخرى مثل فرنسا، والتي شغل فيها مناصب عدّة من بينها نائب رئيس وأستاذ للأدب المقارن في "الجامعة الأميركية" في باريس لثلاث سنوات.
أيضاً، عاش غوردون لسنوات من سبعينيات القرن الماضي في فلسطين المحتلة عام 1948، وهو ما يفسر ربما انشغال عملين من أعماله الروائية الأربعة بفلسطين وبثيمة استعمارها وعنف المستعمر الصهيوني والإسرائيلي لاحقاً، وهو موضوع يتناوله أيضاً بالبحث من زاوية أكاديمية.
هذه الانشغالات كان الكاتب الأميركي يمرّرها في الغالب عبر أدب الإثارة (Thriller) وضمنه يمكننا تصنيف مجمل أعماله، وهو تصنيف لا يمنع من اعتبارها ذات جودة أدبية عالية وعمق فكري.
تتناول روايته "التضحية بإسحاق" (Sacrifice of Isaac) الصادرة لأول مرة عام 1995، العلاقة الشائكة بين المحرقة و"تأسيس" دولة "إسرائيل" ونكبة فلسطين. وتدور أحداثها حول موت مفاجئ لرجل كانت تحتفي به "إسرائيل" كبطل قومي. وبعد وفاته، يكتشف ابنه الذي يعيش في نيويورك علاقة أبيه وأخيه الشائكة، حيث هرب الأخير من الخدمة العسكرية واختبأ في باريس لعقود طويلة.
الأحداث المعقدة وعمليات القتل العديدة، لم تمنع غوردون من استدعاء سرديات دينية بمفردات معاصرة حين يقارن بين الخدمة العسكرية في العالم المعاصر وتضحية الآباء بأبنائهم في العالم القديم، حيث تبدو الأولى مجرّد استعادة في سياقات جديدة للتضحية، تنتقل من الطقوس الدينية إلى خدمة الوطن.
وفي روايته "ابنة مهرّب السلاح" (Gunrunner‘s Daughter)، يعود غوردون إلى الشرق، هذه المرة من زاوية العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة وتجارة السلاح.
أما روايته الثالثة "الأصدقاء الذين تكون معهم" (The Company You Keep)، وهي تعدّ أشهر أعماله بسبب تحويلها إلى فيلم على يد المخرج والممثل الأميركي روبرت ريدفورد، وتدور أحداثها حول الحرب الأميركية في فيتنام والمعارضة داخل الولايات المتحدة لتلك الحرب.
يركّز العمل على رجل يساري وقف ضد الحرب وارتكب جريمة اضطرّته إلى التخفي والعيش تحت هوية مسروقة. وبعد سنوات طويلة تكتشف صحفية علاقته بماضيه. ليبدأ رحلة جديدة بمحاولة الدفاع عن ذلك الماضي.
أثيرت حول هذه الرواية مسألة أن مؤلفها لم يعرف حرب فيتنام عن قرب، وفي هذا الخصوص صرّح غوردون في أحد اللقاءات الصحافية أنه من الصحيح القول إنّه لم يحارب في فيتنام كجندي ولكنه عايش الحرب كمتابع في سنوات يفاعته وتركت أثرها عليه، معتبراً أنه مثل أبناء جيله كبر محاطاً بها وبأخبارها.
أما روايته الأخيرة، فقد أخذت على عاتقها موضوعاً شائكاً آخر وهو تاريخ حركة اليسار الأميركي منذ الحرب الأهلية الإسبانية إلى صعود حركة "احتلوا وال ستريت" عام 2011. هذه الأعمال مكّنت غوردون من موقع أساسي في خارطة الأدب الأميركي ترجمتها جوائز نالها في الرواية وكتابة المقالات كان آخرها عام 2007، من "الصندوق القومي الأميركي للفن" على سلسلة مقالات بعنوان "تخيّل العدو".