ميلاد مجيد في عين الحلوة

26 ديسمبر 2014

عيون في مخيم عين الحلوة على اشتباك مسلح (مارس/2008/أ.ف.ب)

+ الخط -
كنا نحتفل بميلاد المسيح في المخيم، حين كنا صغاراً. وكنا نحتفل بعيد السيدة مريم في قرية مغدوشة، المطلة على مخيمنا البائس. كانت تلك الأعياد لصغار اللاجئين في سنوات اللجوء الأولى مبعثاً للفرح المفقود في بيوتنا، وفي أعيادنا المسلمة، فعيد الفطر كان عيد فرح لانتهاء معاناة الصوم، وعيد الأضحى كان عيد اللحم الذي يندر حضوره في بقية الأيام. لم تكن أعيادنا ملونة، ولا كرنفالية، كأعياد جيراننا المسيحيين. ربما أقصى الفرح الذي خبرناه في عيد المولد النبوي في طفولتنا، حين كان الصيداويون يحملون نائبهم الناصري، معروف سعد، على فلوكة يجوبون به شوارع المدينة، تشيعه فرق الكشافة بالطبول، ومتبارزون بالسيف والترس، هاتفين بشعارات دينية وأدعية لله كي يحفظ زعيمهم.
نشأت وفي روحي محبة خاصة للمسيح، ليس لأنه فلسطينيّ المولد، فذلك شعور لم يكن له ذلك المعنى في الطفولة، فقد استهوتني فكرة أن المسيح ابن مريم، وكنت أحس أن نبياً يُعرّف بنسبه لأمه لهو نبي الألم في مجتمعٍ لا يعترف إلا بنسب الأب. وقد كانت فكرة أن المسيح ابن الله تخيفني في طفولتي، لأنني لم أتخيّل طفلاً يكون الله أباه، يعيش حياة حرة وهادئة. في بيتنا في المخيم، كنا نعلق الأضواء على شجرة سرو صغيرة في البيت، وكنا نستمع إلى الأغنيات ذات الألحان البيزنطية من فيروز، وكنا نفكر أن المسيح لاجئ مثلنا، لكنه لاجئ في جسده وفي روحه، وهو النبي الذي تعذب، كما لم يتعذب نبي قبله، ولا بعده، ولم يكن عذاب يسوع عذاباً جسدياً وحسب، بأن صلب على الخشبة، وحمل صليبه على ظهره، وعلق إكليل شوك على جبينه النازف، بل لأن روحه تعذبت ما بين انتسابه لله وانتسابه لمريم الأم العذراء.
أسئلة الطفولة وأسئلة الشباب كانت محمولة في ذلك المكان الحميم من الروح، ولم يكن المسيح ولا صليبه المدمى حتى عام 1975 يثير فينا أي خوف أو ريبة أو ذعر. في الحرب الأهلية اللبنانية، سُرقت صورة المسيح التي في قلوبنا، وتم اغتصابها من قبل مَن ادّعوا أنهم ممثلوه، كما يفعل اليوم ممثلو الله من المسلمين.
صار الصليب، الذي أدخل الفرح إلى قلوبنا الصغيرة، مثيراً للخوف حوالى ربع قرن. وأنا أمشي في صيف عام 1999 في شارع ركب، في رام الله، متأملاً تفاصيل تلك المدينة الصغيرة من بلدي الذي لا أعرفه، منشغلاً في سؤال هويتي المركّبة والمعقّدة، ومستحضراً دربي الطويل الذي قادني إلى هنا، وأنا الذي سعى، عقوداً طويلة، إلى ما هو أبعد وأعمق، وأقرب إلى ذاكرة بعيدة، أسمع صوتاً أنثوياً آتياً من خلفي، رقيقاً بإيقاعه دافئاً وحنوناً، لكنه كان صاخباً في لكنته الفلاحية الفلسطينية، حيث تصير الكاف "تش"، والقاف تصير "كاف". هذا عدا عن المد والمط، وهو ما لم تألفه أذناي من الفلسطينيين في لبنان المتحدّرين من الجليل وشمال فلسطين. أنظر إلى الوراء، فضولاً لمعرفة صاحبة الصوت، فأرى امرأة شابة جميلة الوجه، رشيقة الجسد، أنيقة اللباس، بهية الحضور، بها شيء من سحرٍ لم أعهده في حياتي السابقة على ذلك اليوم من صيف 1999، فأذهلني كل ذلك البهاء، واجتماعه إلى تلك اللكنة الفلاحية القريبة إلى النفس. وما زعزعني في كل ذلك الحضور أن تلك المرأة الشابة كانت تضع صليباً ذهبياً ينام على صدرها، بسلسلة حول رقبةٍ أنارت شارع ركب، حين مسّها شعاع شمس انكسر، وهو يمسّ قبة الصخرة في القدس. في تلك اللحظة، في تلك اللحظة فقط، تصالحت روحي مع الصليب الذي كاد أصوليون مسيحيون لا يختلفون عن أصوليي الإسلام، اليوم، أن يحفروا هوّة بيني وبينه. واستعدت محبتي الطفولية للمتألم الأبدي، ورأيتني ساعياً أبدياً على درب الجلجلة.



8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.