إنها السابعة مساء من يوم (أمس) الأربعاء 1 أكتوبر/ تشرين الأول، عند تخوم بيروت الشرقية، حيث الطريق المزدحمة بين العاصمة والجبل، بمنطقة فرن الشباك، داخل المجمع السينمائي "أبراج".
المناسبة هي "مهرجان بيروت الدولي للأفلام" بدورته الرابعة عشرة، التي تستمر حتى التاسع من الشهر الجاري. الأضواء ليست إلا أضواء سيارات شرطة وأمن. وعلى مبعدة أمتار، يبدو أن رواد المقاهي ومطاعم الوجبات السريعة غير مبالين بما يجري هنا. حواجز بلاستيكية برتقالية اللون، من النوع الذي تستخدمه الشرطة على الطرقات، ترسم مسار الدخول إلى المكان على نحو ارتجالي وفقير. وما يفترض أنه سجادة حمراء يبدو أنه موكيت رخيص بلون كامد. المصوّرون يحيطون بالمدخل، فيما فتيات التلفزيون المبالغات بأناقتهن، يحملن الميكروفونات، متلهفات لالتقاط من يظنن أنهم "نجوم" الحفل، واقفات بين الحضور ينظرن بنفاذ صبر هنا وهناك.
على الأرجح، لا يعرفن من هم الضيوف المهمّون، أو المخرجون البارزون، ولا أولئك السينمائيون الشبان الآتين بأعمالهم لعرضها في بيروت. لا يعرفن سوى "النجوم"، وهن هنا لاصطيادهم. ما أن ينزل نجم ما السلالم ويلج الصالة حتى يضعن الميكروفون فوراً أمامه، من أجل مقابلة تلفزيونية سريعة.
فتيات المحطات الفضائية هن هنا راغبات أيضاً أن يظهرن كنجمات، كجزء بارز من صورة "الافتتاح" الرسمي للمهرجان. لن يبالين كثيراً بالممثلين اللبنانيين، ولا بالوجوه الثقافية المحلية. فهذه مناسبة نادرة لـ"لقاء" أولئك النجوم العالميين، الممثلين السينمائيين المشهورين. وسيكون الحدث الأبرز هو من التي بينهن ستصطاد النجمة الفرنسية جولييت بينوش، بصورة أو بلقاء عابر أو بمصافحة.
كثير من الحبور هنا، كما يليق بمهرجان سينمائي دولي، لكن أيضاً مع كثير من الارتباك والحيرة، طالما أن فكرة "مهرجان سينمائي" تحيلنا بالمخيلة إلى ما يكون عليه حفل "كان" أو "البندقية" أو "برلين"، عدا عن حفل "الأوسكار". وهذا ما لا طاقة لبيروت الآن على محاكاته والتمثل به. وإذا تغاضينا عن الأناقة والجماليات أو الرهافة السينوغرافية التي نفترضها بهكذا مناسبات، لا يسعنا إغفال هذا الارتجال والتخبط في تبدل أمكنة المهرجان دورة بعد أخرى، وفي تغيّر مواعيده كل مرة. ويتضاعف التخبط مع الوسواس الأمني أيضاً، إذ أن صالة الاستقبال الصغيرة تحشر الحضور بين منفذَين يؤديان إلى قاعة العرض، وقد وضعت عليهما تلك الآلات التي لا تتوقف عن زعيقها الإلكتروني كلما عبرها أحدهم، والتقطت فيه شيئاً معدنياً، وهو الذي نفض من جيوبه كل أغراضه، ومرّر رجل الأمن الآلة اليدوية الفاحصة على جسمه. كان الحشد يشعر كأنه في بوابة مطار خانق، ومحاط برجال أمن مرهقين.
يمكن التخمين أن نصف الحضور هم من الصحافيين والإعلاميين، وما أكثرهم في بيروت، فيما النصف الآخر يجمع بين الضيوف وبعض الدبلوماسيين الضجرين ومنظمي المهرجان. جمهور محبّي السينما ممنوعون عن ليلة الافتتاح، التي تجري مراسيمه على عجل وعلى إيقاع أمني متوتر.
لا نفهم تماماً البرمجة الموضوعة للمهرجان، والممتدة على تسعة أيام مكثفة من العروض. فهو ليس مهرجاناً عربيّ الوجهة تماماً، ولا بأس بذلك طالما أن الصفة الدولية له من لزوم الفن السينمائي نفسه ومن رحابة إنتاج الأفلام وعالميتها، بل إن شرط كل مهرجان سينمائي أن يكون "بلا حدود" أو جنسية. لكن مهرجان بيروت، يضع الأفلام المتنافسة على جوائزه في خانة "الشرق أوسطية"، في الثلاث فئات، الروائية الطويلة والقصيرة والوثائقية. هذا التقسيم الجغرافي – السياسي لا يبدو واضحاً لا في دور المهرجان ولا في جنسية الأفلام ولا في معنى ومضمون ما تقدمه تلك السينمات الآتية من بلدان ولغات واهتمامات متباينة. كذلك يزداد الغموض في "فلسفة" المهرجان، عبر هذا التصنيف لتسعة أفلام تحت مسمى "جبهة الرفض" بالإضافة إلى ثلاثة أفلام إيكولوجية (بيئية) ضمن الخانة إياها، لكن أفلام "جبهة الرفض" هذه يسميها بروشور المهرجان أفلام "الساحة العامة"، قاصداً ربما تلك الأفلام الطالعة من تجربة الميادين العربية في ثورات 2011. وكان يمكن، والحال هذه، أن يركز المهرجان على هذا المحور، "الربيع العربي" وميادينه، ليمنح لنفسه ولبيروت فرصة مهمة لرسم صورة بانورامية كبيرة عن الكاميرا والثورات الشعبية العربية.
هو حدث ضخم في كمّ الأفلام الجديدة التي يأتي بها، وهو فرصة لمشاهدة أفلام لا تأتي بها الصالات التجارية، خصوصاً تلك الآتية من السينما الإيرانية أو التونسية والأرجنتينية والبرازيلية.. مثالاً لا حصراً. ورغم هيمنة الحضور الفرنسي، إلا أن التنوع سمة واضحة، كما في المشاركة الواسعة للتجارب الشبابية العربية، بخاصة في مجال الوثائقي والأفلام القصيرة.
لم أر جولييت بينوش، للأسف، لكن ما يعزيني في المهرجان، تلك التظاهرة الخاصة بالسينمائي الإيطالي روبرتو روسّليني، صاحب "ألمانيا العام صفر" و"روما مدينة مفتوحة" و"سترومبلي". إذ سيتاح أن نشاهد له ستة أفلام من روائعه. ويبقى أفضل ما في ليلة الافتتاح هو تأكدنا أن المهرجان مازال مستمراً، وما زال عنيداً ببقائه، وهذا إنجاز بحد ذاته في الشرق الأوسط.