من قلب المعركة على الرواية

05 مايو 2020

ربى عصفور .. فنانة فلسطينية رفضت جائزة إسرائيلية

+ الخط -
في غمرة السجال المحتدم على الشبكة العنكبوتية حول ما احتوته بعض المسلسلات الرمضانية من مشاهد تشي بوجود نفَسٍ تطبيعيٍّ مثير للحفيظة، فاجأ المشتغلين بالسياسة والثقافة، وطيّب نفوسَهم، خبر أتى من رقعة أرضٍ تكاد تكون منسية، يتعلق بموقف فنانةٍ من داخل الداخل الفلسطيني، رفضت فيه تسلّم جائزة أفضل ممثلة، عن دور لها في مسلسل تلفزيوني عبري بعنوان "فتيان" (Our Boys) تروي أحداثه واقعة قتل الفتى محمد أبو خضير وحرقه في حي شعفاط بالقدس الشرقية عام 2014 على أيدي ثلاثة أبناء لعائلة مستوطنين مدجّجين بالكراهية. جاء هذا الخبر في وقته المناسب تماماً، وبدا مداخلة رصينة على خط السجال الدائر في فضاء مليء بالغثاثة والتصيّد والوضاعة، كما بدا لي هذا الخبر كومضة قدحت في الذهن بغتة، أشعلت لدي رغبةً في اهتبال هذا الموقف الشجاع لفنانةٍ لم أكن أعرفها، ولا دراية لي بمشوارها الإبداعي، أو معرفة واسعة بواقع الحركة الثقافية لمجتمعها في أراضي 48. ومع ذلك، رغبت ألا تفلت مني هذه الشرارة التي ستنطفئ حتماً إن لم أوقد نارها المقدسة بسرعة، أي البناء على وقفة ربى بلال عصفور، بنت مدينة الناصرة ويافا وفلسطين.
كانت مشكلتي الأولى في تناول هذه الوقفة الباعثة على الاعتزاز ماثلةً في جهلي التام ببطلتها الحقيقية، أما الثانية فكانت إلمامي الضئيل بواقع الإنتاج المسرحي والسينمائي الغزير، لجيل جديد يقود الحياة السياسية والثقافية لنحو مليوني مواطن، ظلوا منزرعين في أرضهم، يقاومون الاجتثاث والأسرلة والتهويد ببسالةٍ تجلّ عن الوصف، يتكاثرون ويتطوّرون على كل الصعد، الأمر الذي حدا بي لتكثيف القراءة والبحث، ليس فقط عما يتصل بوقفة ربى أم محمد أبو خضير في المسلسل، وإنما أيضاً في ماهية مخرجات تلك البيئة الفريدة بخاصياتها الوطنية.
غير أن أكثر ما أثار حيرتي، وأنا بصدد التنويه بوقفة هذه الفنانة ذائعة الصيت في مجتمعها الصغير، وكاد يردّني عن المحاولة، ذلك النص البديع الذي أعلنت من خلاله هذه الأيقونة رفضها قبول الجائزة، حيث النص في حد ذاته قطعةٌ أدبيةٌ باذخة، غير قابلة للتزيّد، أو قل إنه بيان ثقافي، أتى على نحوٍ أبلغ من كل ما في وسع أي كاتبٍ قوله، وهو ما جعل المحتفلين بوقفة الفنانة المناضلة حقاً، يكتفون بتدوين الخبر على منصاتهم، ونشر النص الجميل كما هو، عدا رهط من السياسيين والمثقفين، ممن ابتهجوا بها كثيراً، وأضافوا تعليقاتٍ مختصرة، تشيد بالوقفة وتشد على يدي صاحبتها.
بفضل البحث السريع في المنصّات الكثيرة عن هذه السيدة الأربعينية، وهي أم لأربعة أطفال بينهم ثلاثة توائم، وتقيم في يافا، وجدتُ أنها قامة مشهود لها في المجال الفني، أدت أدواراً لافتة في عدة مسرحيات محلية، مثل تسامح وجدارية محمود درويش والزير سالم وغيرها، كما شاركت في أفلام كثيرة، كلها عن القضية الفلسطينية، عُرض بعضها في رام الله، ومثلت دور فاطمة برناوي أول أسيرة من فلسطين، وحضرت مهرجاناتٍ سينمائية في برلين وكان وفينيسيا، ونافست على جوائز الأوسكار، ومشت على السجادة الحمراء بفيلم من بطولتها بعنوان "عطش".
ولعل أهم عمل للفنانة عصفور، وربما أرفع بطولة مطلقة لها، كانت في مسلسل "الفتيان" من انتاج شركة HBO العالمية، حيث تم تناول قضية قتل الفتى أبو خضير، وجرى التأكد من عبث البحث عن العدالة عبر المنظومة القضائية الإسرائيلية، وفوق ذلك التطرّق إلى ظاهرة الإرهاب اليهودي، بالدخول إلى القلب الافتراضي لجهاز الشاباك، وإدارة معركة على روح إسرائيل الآثمة، في الأقبية المعتمة ووراء الأبواب السرية المغلقة، إذ أدّت ربى دور أم الفتى الشهيد، واجتهدت في نقل صورة الألم والمعاناة الفلسطينية إلى العالم، وفضح جرائم الاحتلال المروّعة.
وأختم بفقرة صغيرة من بوست ربى القوي: "إنني كفنانة فلسطينية ناشطة أعيش يومياً تخبطات أخلاقية كثيرة، لها علاقة باختيار الأدوار، أتجنب فيها تقديم تنازلات تمسّ بشعبي وقضيتي ودوري الإنساني، وهو أمر غير سهل مع خصوصية وجودنا ضمن محيطٍ ينشغل بقمع كل صوت ينادي بالسلام وإنهاء الإحتلال".
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي