لكن لماذا لا تكمن السعادة في غياب المعنى وغياب الرغبة في البحث عنه؟ هذا البحث الذي ترافق دائماً مع ممارسة للعنف. إن الغربي لا يبحث عن المعنى، ولكن بوعي أو لاوعي عن فرض المعنى. ففي اللحظة التي يؤكد فيها بأن هذا البحث شأن خاص بثقافته الغربية، التي حررت لحم الفرد من لحم الكوزموس، وينفي وجود مثل هذا السؤال في الثقافات الشرقية، يؤكد تفوقه الأنطلوجي.
ترى الفيلسوفة الألمانية كارين غلوي في كتابها: "بين السعادة والتراجيديا: تفسيرات فلسفية للكينونة"، غياب سؤال المعنى عند الشعوب الطبيعية، وثانويته في الثقافات الشرقية، في حين تؤكد مركزيته في الثقافة الغربية. وتربط هذه المركزية بارتباط هذه الثقافة بالمستقبل، وبنهائية الإنسان وبالسؤال عمّا بعد الموت، سواء داخل المسيحية أم داخل البيولوجيا المعاصرة.
وتعيد غلوي نشوء سؤال المعنى إلى التصوّر التراجيدي عن الكينونة في التراجيديا اليونانية القديمة، والذي أعقب انهيار العالم الهوميروسي، الذي عاش فيه الإنسان في ارتباط مع الآلهة.
إن التراجيديا هي ولادة الوعي وهي نتاج لأزمة أنطلوجية كبرى، لأن الوعي يولد دائماً في الإنسان الذي يغادر النظام القائم والحقائق السائدة. لكن الرؤية التراجيدية إلى الكينونة تظل، كما أوضحت غلوي في قراءتها للعديد من التراجيديات اليونانية، رؤية متشائمة وعدمية. إنها تقودنا إلى طريق الخلاص من دون أن تسمح لنا بعبوره. لتظل التراجيديا مسرحاً لصراع بين القدر من جهة وحرية العقل من جهة، قبل أن تأتي المسيحية لتأخذ التراجيديا طريقا مختلفة، تبشّر بخلاص في ما بعد الموت.
تعتبر غلوي أن نشوء هذه الرؤية التراجيدية أمر يميّز الثقافة الغربية عن مثيلاتها الشرقية وتصوّرها عن الكينونة، وأنها عرفت تحرراً للعقل من القوى القاهرة للطبيعة ومن القدر والتاريخ، وأنه في هذا السياق فقط كان بالإمكان طرح سؤال المعنى: "من أين جئت؟ إلى أين أمضي؟ ومن أكون؟"، في حين أن طريقة التفكير الشرقية، في رأيها، لم تؤسس لوعي فردي.
يبدو واضحاً أن الكاتبة، التي لها معرفة كبيرة بالحضارة الهندية وأديانها، لا تعرف الكثير عن الحضارة الإسلامية. وبغض النظر عن أن الخط الغالب داخل الحضارة الإسلامية، أسس لمعنى مطلق ونهائي، إلا أن ثقافة الإسلام لم تعدم تيارات فلسفية وأدبية طرحت سؤال المعنى بطريقتها الخاصة، وانقسمت هي الأخرى بين التفاؤل والتشاؤم وبين الثيوديسا والعدمية، بل إن شخصية النبي نفسها وسيرته، تؤكد في ما لا يدعو إلى الشك، البحث المضني عن المعنى والاستعداد للتضحية من أجله.
تتحدث غلوي عن الشعوب الشرقية كشعوب مجردة من المعنى، ويذكّرنا كلامها بما كان يكتبه المبشّرون الإسبان عن الهنود الحمر كأناس بلا روح. وما لم تنتبه له في قراءتها الثقافوية هو أن سؤال المعنى يمكن أن يُطرح بأكثر من طريقة، إنه سؤال متعدّد بتعدد سياقاته، كما أنها لم تنتبه البتة إلى أن "غياب" المعنى أو السؤال عند ثقافات أخرى، يرتبط صميمياً بعنف المعنى الذي يؤسّس له المركز ويمارسه في اتجاه الأطراف، وتغفل استراتيجيات صناعة المعنى وصناعة الوعي في الثقافة الغربية المعاصرة والتي أحلّت الاستهلاك محل البحث، والجواب مكان السؤال.
كما أنها ظلت شأن ثقافتها حبيسة ثنائيات مصطنعة من قبيل المعنى واللامعنى، الثويديسا والعدمية، العدمية الموضوعية والعدمية السلبية، إلخ.. ثنائيات، وإن كانت تعبّر عن قلق الفكر الغربي، فإنها تعبّر أيضاً عن العنف الذي يخترق هذا القلق، إذ علينا في النهاية أن نختار.. وفعل الاختيار يتناقض وإمكانية أن نعيش في عوالم وأفكار مختلفة. إنه فعل يقوم على الشك، لكنه يفضي في النهاية إلى معنى.