من الاعتمادية إلى الاعتماد الذاتي

14 مارس 2018
الاعتماد على النفط جعل الاقتصادات هشّة (Getty)
+ الخط -

هنالك 3 مصطلحات اقتصادية مختلفة، لكنها في نهاية المطاف تعني أشياء متقاربة ومتداخلة. وهي الهشاشة الاقتصادية، الحساسية الاقتصادية، الانكشاف الاقتصادي، وهي أفضل ما وجدتُهُ من ترجمة لكلمة "Vulnerability".

فالهشاشة تعني سرعة التجاوب مع المؤثرات الخارجية، بحيث تجعل الاقتصاد قابلاً للكسر، عند حصول أي عارض خارجي. أما الحساسية فتعني سرعة الاستجابة مع التغيرات في الاتجاه الخاطئ. وأما الانكشاف فيعني الحالة التي تكشف عن ضعف الاقتصاد، حتى وإن بدا متعافياً عند حصول مؤثراتٍ خارجية.

وسوف نستغني عن كل هذه التعريفات، ونتفق على مصطلح واحد، يجمعها كلها في إطار واحد، وهي كلمة الاعتمادية على الآخر أو الآخرين، فدول النفط جميعاً لا تعتمد على الآخرين للحصول على مساعدات، لكنها تعتمد على سلعة واحدة أو اثنتين، لضمان استمرار جني دخلٍ كافٍ لها، وعادة ما تخلق هذه الاعتمادية على سلعة واحدة أو اثنتين ظاهرة اسمها "العارض الهولندي" (Dutch Syndrome).

وقد اكتسبت هذه الظاهرة اسمها من الحالة الهولندية، لما اكتشف الغاز فيها. فسيطر هذا القطاع على معظم الاقتصاد، وتحوّلت العمالة كلها إلى طلب الوظائف إما في قطاع الغاز ذاته، أو في القطاعات التي تعتمد عليه، مثل الاستيراد.

وقد سمّت الراحلة الدكتورة ميرفت بدوي هذا العارض "بالمرض الخليجي" في بحث نشرته قبل 20 سنة في مجلة النفط والتنمية التي كانت تصدر عن منظمة الدول العربية المصدّرة للنفط (أوابك). 


وكتبت في بحثها أن الدول النفطية بنَت كل اقتصاداتها حول النفط، وأن العمالة الوطنية كلها توجهت إلى العمل في هذا القطاع، أو القطاعات المرتبطة به، وبالحكومة بصفتها مالكة هذه الثروة.

ومن الواضح أن الاعتماد على سلعة واحدة، أو سوق واحدة، أو سلعة معينة، له عيوبه، ويعزّز حالة الاعتمادية في الدولة على تلك السلعة أو الخدمة. وفي يوم من الأيام، اعتمدت البرازيل على البن، وروسيا على النفط والغاز، وكوبا على السيجار، وسريلانكا على الشاي، وغيرها من الأمثلة.

وصارت بعض هذه الدول تعرف بالسلعة المتخصصة في إنتاجها. لكن لكل سلعة دورتها، ومتى ما انقضت مرحلة الارتفاع، تقع الدولة في إشكال اقتصادي كبير.

وقد نجحت هولندا في أن تصبح منتجةً للحليب ومشتقاته، وأسّست أكبر ميناء لتحميل النفط والغاز في روتردام، ونجحت في بناء شركة فيليبس، وطوّرت السياحة، ونجحت في إيجاد أكبر بورصة زهور في العالم، وأنتجت أنواعاً رائعة من زهرة البنفسج ذات الأصول التركية.

وكذلك أنشأت شركة "شل"، واحدة من الشركات السبع الكبرى المتخصصة في إنتاج النفط والغاز وتسويقهما.

وقد سعت دول عربية مبكّرا من أجل تنويع اقتصاداتها، فمصر التي اعتمدت يوماً على القطن بالدرجة الأساسية، تمكّنت إبان فترة طلعت حرب أن تطور صناعة الغزل والنسيج (المحلة الكبرى)، وصناعة الحديد (حلوان)، وصناعة السينما (ستوديو مصر)، وصناعة التعليم العالي (جامعة الملك فؤاد أو القاهرة وجامعة عين شمس والإسكندرية)، والخدمات الطبية (القصر العيني).

كما بذلت سورية بعد الاستقلال جهوداً كبيرة لتطوير الصناعات والحرف التقليدية، وصناعة الغزل والنسيج، وصناعة الطعام والحلويات، وصناعة الأثاث، وتنويع الزراعة المكثفة، وكثير من الصناعات الميكانيكية وحرف البناء.

ولولا التقلبات السياسية، وما جرّته على سورية من ويلات، لكان اقتصادها من أكمل الاقتصادات العربية، وأكثرها اعتماداً على نفسها.


وينطبق الحال ذاته على العراق الذي أسس للصناعات الصوفية (العباءات والبطانيات)، والأغنام، واللحوم، وزراعة الحبوب كالحنطة والشعير، وطوّر صناعات الأسلحة، وكفاءات بشرية محلية في مجال الطاقة، حتى صار معتمداً على كفاءاته المحلية، وطوّر صناعات الحديد، وأنمى الطرق والبنى التحتية، والعراق كاد بفضل نهري دجلة والفرات زراعياً أن يكون دولة معتمدة على نفسها ذاتياً.

وعندنا مثالان يقتربان من حالة التنويع الاقتصادي، من دون الوصول إلى مرحلة الاعتماد على الذات، وهما الجزائر والمغرب. وحتى لو كان المغرب من دون نفط، إلا أن استثماراته الكبيرة في الطاقة المتجددة سوف تعطيه، إلى جانب السياحة والصناعات التقليدية والحرفية المتطورة، إمكانات أفضل من الجزائر التي اعتمدت صناعاتٍ كبيرة مكلفة (سوناتراك)، واضطر بعضها إلى الإغلاق. لكن تبقى هاتان الدولتان مرشحتين للوصول إلى مرحلة الاعتماد على الذات.

أما الأردن ولبنان وتونس وفلسطين فهي دول صغيرة المساحة نسبياً، ومواردها أقل من غيرها. ومع هذا، سيكون الوقت في مصلحتها إذا استطاعت أن تطوّر خدماتها وصناعاتها المعتمدة على المعرفة، لأنها تتمتع بقوى بشرية مؤهلة، وبأنظمة خدمات متطورة، ولديها مئات الآلاف من المغتربين الناجحين كرجال أعمال في الخارج.

دول الخليج أنفق بعضها إنفاقاً كبيراً جداً على التنويع الاقتصادي، ونجح بدرجات متفاوتة. وفي رأيي أن أكثرها نجاحاً ووعداً في المستقبل هي إمارة الشارقة، لأنها اعتمدت التعليم والثقافة والصناعة والمناطق الحرة نقاط تنويع اقتصادي، من دون أن تتكبد مبالغ فوق طاقتها.


وتبدو إمارة دبي أكثر ازدهاراً من بقية الإمارات، لكن كثيراً من خدماتها قابل للانقطاع، إذا استمرت على منوالها الحالي في الاعتماد على سياحة الرياضة والتسوّق، وفي الاستثمار العقاري. لكل من هذه دورات تتوقف عندها، خصوصاً في ظل التنافس الخليجي على المصادر نفسها، لا سيما بين أبوظبي ودبي والبحرين وقطر.

ولا شك في أن للبحرين سبقاً تاريخياً، ولم يعد لديها إنتاج نفط يسد حاجتها، لكنها نجحت في جذب الاستثمار غير المقيم (Offshore) بشكل كبير. وهي بحاجة إلى مشروعاتٍ صناعيةٍ تجعلها أكثر استقراراً في تنوعها. والسياحة بالطبع ما تزال تعتمد على الأسواق المجاورة، وهو أمر يتطلب إعادة التفكير في مخططات السياحة البحرينية.

أما قطر فهي من أكثر بلدان الخليج قدرة على المرونة، كما أثبتت في الأزمة الحالية، حين حوصرت وقوطعت اقتصادياً من بعض جاراتها. وقد كشف هذا الحصار هشاشة قطر تجاه ما تزوده بها الدول الأخرى من مواد غذائية، وإعادة تصدير عن طريق الموانئ والخطوط التي تصلها بجيرانها في الخليج. ولذلك، سارعت إلى بناء قاعدة إنتاج غذائي، ونوّعت مصادرها، خصوصاً من المواد الغذائية، وكونت تحالفات مع دول جديدة.

وتسير المملكة العربية السعودية تسير الآن نحو الاعتماد الذاتي، وتقليص الاقتصاد الريعي، والانتقال إلى اقتصاد السوق، وبناء مشروعاتٍ كبيرة في شمال البلاد وشرقها خصوصاً، فإنها بحاجة إلى خطةٍ متكاملة للتصنيع والخدمات. وإذا تمكنت السعودية من الخروج من الأزمة اليمنية، وأعادت ضبط علاقاتها مع اليمن، بالحوار بدل القتال، فإن اقتصادها مرشحٌ أن يكون كبيراً وواعداً جداً.

هنالك أمل في خروج الدول العربية من حالة الاعتمادية. لكن ماذا لو استمرت الشقاقات الداخلية والتشرذم الجغرافي وإعادة موضعة السكان على أساس طائفي، فهل ستبقى البلدان موحدة، أم أنها ستنقسم؟

وإذا تقسّمت، ضاع أي أمل لها في الوصول إلى مرحلة الاعتماد على الذات، وستخرج من حالة السيادة على أراضيها لمصلحة قوى إقليمية ودولية، ويصبح البحث في الاعتماد على الذات غير وارد على الإطلاق، لا سمح الله.
المساهمون