منحنى حراك التنظيمات الجهادية.. صعود الجيل الثالث

13 نوفمبر 2014
شكل انحسار الربيع العربي شرارة إيقاظ لقوة الفعل الجهادية(Getty)
+ الخط -

تتعاقب الأجيال على التنظيمات الجهادية، وما أن تخفت أو تنطفئ جذوة بعض هذه التنظيمات، إلا وتندلع من جديد، طالما بقيت الأسباب الاجتماعية والسياسية الداعية للتطرف والعنف قائمة، فلن يتوقف تعاقب الأجيال التي تنحو منحى العنف والتسلح مساراً للتغيير.

نحن اليوم أمام الجيل الثالث من هذه التنظيمات، سبقه جيل التنظيمات المركزية (من السبعينات وحتى منتصف التسعينات)، وجيل الجهاد العالمي، أو العولمة الجهادية (أواخر التسعينات والعقد الأول من الألفية الجديدة) ونحن الآن أمام جيل "الدولة" الجهادية، (منذ دخول هذه التنظيمات على خط الثورة السورية).

فعلى مر التاريخ وتجارب التحرر والتغيير، لم تغب قضية العنف والكفاح المسلح إلا أن تكون واحدة من الأدوات، فالتجربة الغربية للتحرر شهدت مواجهات مسلحة كثيرة، وصراعات أهلية، وصدامات عنيفة، إلا أن تلك الصراعات كانت تنتهي إما إلى تحول في الأوضاع السياسية والاجتماعية، أو تنتهي إلى مراجعات حقيقية حول العمل المسلح.

وما أن تفشل تجربة التنظيمات الجهادية المسلحة في ركن من بلادنا العربية حتى تنتقل إلى ركن آخر، ومن طريقة عمل لأخرى، دون أن تنتهي، بالضرورة، إلى مراجعات حقيقة.

انطلق الجيل الأول من التنظيمات الجهادية، والذي يُعتبر (جيل التنظيمات المركزية)، من مصر على يد الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في مطلع السبعينات، متخذا من أفكار سيد قطب الداعية للمفاصلة والحاكمية منهجاً، وقتال العدو القريب، أنظمة الفساد والاستبداد، هدفاً.

وتعددت المحاولات والتجارب الجهادية مصريا، من تنظيم الفنية العسكرية، إلى اغتيال أنور السادات، ومحاولة اغتيال حسني مبارك وشخصيات وزارية عديدة، وفي المقابل تصاعد تتبع الدولة لهذه التنظيمات، والاعتقال والمحاكمات كذلك، حتى تم إعلان مابدرة وقف العنف والمراجعات الفكرية.

كانت الحاضنة التي مهّدت لظهور الجيل الثاني من هذه التنظيمات هو حدث "الجهاد الأفغاني"، الذي كان في أواسط ثمانينات القرن الماضي، وقد أكسبت هذه الحرب الجهاديين قدرات تنظيمية ولوجستية ومهارات عسكرية حققت نقلة نوعية في إمكانياتهم.

ثم ظهر الجيل الثاني من التنظيمات الجهادية، الجهاد العالمي/عولمة الجهاد، وهو ما جسدته فكرة تنظيم القاعدة والتي انتقلت من فكرة العدو القريب إلى فكرة العدو الخارجي. وكانت النقطة الفاصلة هي أحداث سبتمبر/أيلول 2001، التي أدت لاجتياح أميركا لأفغانستان واحتلال العراق، واستمرت القاعدة تواصل جهادها واتجهت للداخل مرة أخرى في العراق.

وجاء الربيع العربي مقدمة لسقوط الاستبداد، وكان أيضا شرارة إيقاظ لقوة الفعل الجهادية، من خلال ما وجدته من فسحة عبر الثورة السورية، ثم توالت الأمور في ليبيا واليمن، لتعود التنظيمات الجهادية إلى الساحة مرة أخرى، ولكن بجيلها الثالث أو جيل الدولة الجهادية.

ولم يكن مستبعداً ظهور هذا الجيل الثالث، خصوصاً بعد حالة السيولة والتشظي التي لحقت بالعالم العربي، فالأوضاع الاستبدادية في البلاد العربية، والصراع الذي أخذ وجهاً طائفياً (سنياً- شيعياً) في منطقة الهلال الخصيب، عوامل يسَّرت عملية انتقال الجهاديين إلى هذه المنطقة.

بينما يختلف هذا الجيل عن سابقيه، فهو يتمتع بالوحشية والعنف بشكل أكثر فجاجة، فضلا عن قدراته القتالية، مستفيداً من الخبرة المتراكمة لدى من سبقوه، وامتلاك وفرة مالية تكاد تكون الأغزر في تاريخ الحركات الجهادية، وقدرات تسليحية عالية، تصل إلى حد امتلاك طائرات، فضلاً عن بقية الأسلحة الأخرى، التي وصلت إليهم، أو أستطاعوا أن يحصلوا عليها من مخازن جيوش الأراضي التي ينشطون فيها ويسيطرون عليها، وأخيرا احتلال مساحة ممتدة من الأرض تجعل التنظيم الإرهابي يأخذ شكل شبه دولة.

وبإلقاء النظر على تكوين أبرز الظواهر الجهادية اليوم، أي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، نجد أنه نجح في توظيف الصراع في منطقة الهلال الخصيب ليأخذ شكلا طائفيا (سنياً – شيعياً) لضمان وجود شكل خطابي يتوجه به إلى الشباب السنة ويحقق استفزازاً عاطفياً لهم، كما أنه استغل نقمة شباب القبائل السنية في العراق على نظام نوري المالكي الذي أقصاهم وعقد مسيرة حياتهم.

وفي ما يتعلق بالقدرات الأساسية لتنظيم الدولة الإسلامية، فيمكن تلخيصها في محاور ثلاثة:

1.استخدام استراتيجية الحرب غير المتماثلة، والعمل التكتيكي والعملياتي المتقدم، بما يجعلهم من أهم القوى التي تستطيع أن تخوض حرباً غير نظامية، أو حرباً غير متماثلة، أو المسحة المغامراتية. وتعتبر الدراسة التي قدمها إيفان إريجوين، بعنوان "كيف يفوز الضعفاء بالحروب" دالة على نتائج الصراعات غير المتماثلة ومعدلات فوز الطرف الأقوى أو الأضعف بالحرب. ليجد أنه في الفترة بين (1800-1998) استطاعت القوى غير النظامية (الطرف الأضعف)، بالفوز بما يمثل 30% من الصراعات غير المتماثلة التي تم خوضها، والتي يصل عددها لـ197 صراعا وحرب، وتزداد هذه النسبة في الخمسين سنة الأخيرة من عمر الدراسة، ففي الفترة من (1950-1998) نجد أن معدلات تحقيق انتصار الأطراف غير النظامية على الأطراف النظامية أعلى بنسبة 55% لصالح الطرف الأضعف أو القوة غير النظامية.

2.الشبكة العنقودية والحلقة الوسيطة التي تقدم الدعم الخارجي واللوجستي للتنظيم، فهذه الشبكة قامت على الأساس الذي أقامه تنظيم القاعدة في مختلف أنحاء العالم لتوفير الدعم وتجنيد الجهاديين ونقلهم لمناطق الصراع. واستطاعت داعش أن تستفيد من هذه الخبرة، وعملت على تطوير هذه الشبكة باستخدام التكنولوجيا والشبكات الاجتماعية وتقنيات الاتصال الحديث. واستطاع تنظيم داعش أن يستفيد من هذه الخبرة، وعمل على تطوير هذه الشبكة باستخدام التكنولوجيا والشبكات الاجتماعية وتقنيات الاتصال، وهو ما اتضح مؤخرا حول حجم التجنيد والإمداد والدعم اللوجستي، الذي يصنف على أعلى قدر من الأهمية والأمان، وتمثل هذه الحلقات الوسيطة شرايين الحياة بالنسبة للتنظيم واستمراره.

3. التواجد في كل من العراق وسورية، وبعض التواجد في الأردن وشبه جزيرة سيناء، بما تشكل هذه المناطق من حزام مشتعل، بالإضافة إلى أنها تمثل نقطة تماس مع المشروع الإيراني في ذات المنطقة فيما يعرف بالهلال الشيعي، وسيستمر هذا الصراع قائما ما دامت كل الأطراف تنظر إلى أن التحكم في منطقة الشرق الأوسط تبدأ بتوسيع النفوذ في منطقة الهلال الخصيب. لأن الحقيقة التي جاءت داعش لتؤكدها، أن المنطقة يعاد تشكيلها بشكل كامل، ويسعى كل طرف فيها لرسم الخريطة بشكل يضمن نفوذه المستقبلي، وهذا يتشابه مع الفترة التي ظهر فيها الصراع الأميركي السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت جهودا ديبلوماسية وتحركات تكتيكية واستراتيجية بين الدول المختلفة سواء باتفاقات ثنائية أو متعدده وتحالفات محدودة أو تحالفات موسعة.

ورصد ستيفن والت، أستاذ الشؤون الخارجية في كلية كيندي للدراسات الحكومية في جامعة هارفرد، في كتابه "أصول التحالفات" التحالفات التي تمت في الشرق الأوسط في الفترة بين 1955 و1979 واعتمد على الأرشيف الديبلوماسي للاتفاقات بين الدول، ليجد أن هناك 36 تحالف (ثنائي أو متعدد) تشمل 86 قرار وطني!!

وهو ما يجعلنا مستعدين لتوقع اتفاقات وتغييرات جوهرية في خرائط التفاعلات والتحالفات القادمة، وأدوار جديدة لفواعل غير تقليدية، وحروب غير نظامية، ليتم رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، وهذا يجعلنا أيضا ننتظر حالة جديدة من تفاعل التنظيمات الجهادية مع الواقع الجديد.

هذه العوامل التي تخدم تنظيم "داعش" تجعلنا أمام جيل مختلف في قدراته وأهدافه وربما في نتائج المعركة التي يخوضها.

وتستمر الأسباب السياسية والاجتماعية المؤدية لظهور وصعود الجماعات الجهادية، واختيار العنف كمسار للتغيير في العالم العربي، وتستمر في ذات الوقت الأسباب البنيوية والفكرية والأخطاء الإستراتيجية التي تؤدي في النهاية لخفوت وهبوط هذه التنظيمات، وبين الصعود والهبوط أجيال جديدة تخرج، وأدوات جديدة تُستخدم، ودماء عزيزة تذهب هدرا وهباء، كقربان لحاكم مستبد يريد أن يحرق الأرض ولا يسلم السلطة، أو تنظيمات جهادية لا تملك مراجعة حقيقية ولا رؤية سياسية للتغيير سوى الموت في سبيل ما تحمله من أفكار، وحمل المجتمعات وإجبارها على هذه الأفكار.

المساهمون