مفتي القدس وانتهاك التاريخ

29 أكتوبر 2015

ربما وقع المفتي في سذاجة تقدير مخاطر النازية

+ الخط -
فلندع ما زعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن إقناع المفتي الحاج أمين الحسيني زعيم ألمانيا النازية، أدولف هتلر، بالفكرة الجنونية لإبادة اليهود، في ما عُرف تاريخياً بالحل النهائي، فهذه مزاعم متروكٌ تفنيدها، كواقعة تاريخية، لليهود أنفسهم وللمؤرخين الغربيين المتعاطفين مع إسرائيل. وربما لم يحظ حدث تاريخي بهذا الكم من التغطية في كل وسائل الإعلام، من سينما وتلفزة ومسرح وموسيقى وفن تشكيلي وشعر ورواية وأوبرا، كما حظيت إبادة اليهود، ومع كل الأعداد الفائضة للباحثين المختصين في العالم، لإثبات ما هو واضح لم يتطرق باحث في تاريخ النازية وشرورها إلى ما وصل إليه نتنياهو من نتائج، أراد أن يلصقها قسراً بالتاريخ، مقدماً أوهامه حقائق لتجريم الفلسطينيين، وتقديمهم بصورة القتلة المتفوقين على المجرم الأول في التاريخ الإنساني المعاصر، أدولف هتلر، كي يقنع العالم بأن الفلسطينيين الذين تنازلوا عن حقوقهم الأساسية في عملية سلام، قام هو وقادة إسرائيل بذبحها من الوريد إلى الوريد، لا يستحقون السلام ولا العيش. وبذلك وقع نتنياهو في شرّ أوهامه، وقدّم للعالم رؤيته التي لم تبتعد كثيراً عن رؤية هتلر، وأعطى اقتراحاً شبيهاً بما وضعه النازيون لليهود، بضرورة التخلص من الفلسطينيين، لعدم أهليتهم للحياة.
في ظلّ هذا الانحدار السريع للفكر الصهيوني نحو طريق القضاء التام على شعب آخر، وتماهيه مع أساليب القتلة النازيين من حرق وإعدام فوري بلا محاكمة لشباب صغار، بشبهة الإرهاب، لم يكلف نتنياهو، ولا قادة إسرائيل، أنفسهم عناء البحث الجدي في التاريخ، والكشف عن التعاون الصهيوني مع النازية، ودور النازية نفسها في إنشاء دولة إسرائيل، بتسهيل هجرة اليهود الألمان إلى فلسطين منذ الثلاثينيات، استناداً إلى الرسائل المتبادلة بين الحركة الصهيونية، عبر المنظمة الصهيونية الألمانية، مع هتلر، في 22 يونيو/حزيران عام 1933، حيث أظهرت تعاطفها مع سياسات هتلر، ما جعل القادة الألمان يسهلون حركة القادة الصهاينة إلى ألمانيا، وترتيب عمليات هجرة اليهود إلى فلسطين، تحت إشراف الحكومة الألمانية.
لم يكن موقف المفتي، أمين الحسيني، نشازاً بين قادة العالم في التعامل مع ألمانيا النازية، فحكومات وقيادات شعوب كثيرة، كانت بلادها تقع تحت وطأة الاستعمار القديم البريطاني والفرنسي، انتهزت ظروف الصعود النازي في وجه القوى الاستعمارية القديمة، وحاولت بناء تحالفات مع ألمانيا، بهدف تخليص بلادها من الاستعمار. اتصل الضباط الأحرار في مصر بالنازيين، وحاولوا استثمار عدائهم لبريطانيا، للتخلص من الوجود البريطاني. وإذا كان موقف المفتي لا يختلف عن مواقف هؤلاء، إلاّ أن المفتي، كزعيم للحركة الوطنية الفلسطينية في تلك المرحلة، لم ينادِ بالقضاء على اليهود في بلاده، حيث كان اليهود جزءاً من الشعب الفلسطيني إلى أن بدأت الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين. ربما وقع المفتي في سذاجة تقدير مخاطر النازية على العالم، المعادية للعرب أصلاً، وكان ينطلق من مصلحة وطنية، سعياً إلى استقلال بلاده، وكبح عجلة الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي جهدت فيها الحركة الصهيونية، بالتعاون مع قوى الاستعمار والنازية بانتهازية شبيهة لما كان لدى المفتي.
لم يحظ المفتي بمحبة واضحة لدى الفلسطينيين، كما حظي قادة الشعب الفلسطيني المعاصرون له أو الذين ظهروا بعده، فقد كان مجرد ذكر المفتي والهيئة العربية العليا في الخمسينيات في مخيمات الشتات كافياً لإثارة الريبة منه، وممن كانوا لا يزالون على صلة به من الأجيال الأولى للشتات. ليس للأسباب التى يراها نتنياهو، فقد قدم المخيال الشعبي لدى العرب المستعمرين من فرنسا وبريطانيا هتلر رجلاً يستحق الإعجاب، حتى أنهم أطلقوا عليه اسم "أبو علي"، ليس لأنه قاتل اليهود، بل لتحديه لمستعمريهم، كما يطلق اليوم عرب واهمون على بوتين أبو علي، رغبة ساذجة في هزيمة الحلف الأميركي.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.