29 سبتمبر 2017
مع محمود درويش وشعره
أحسب أن الكون يزهو بولادة الشعراء الذين يمسحون جبينه بزيت أرواحهم، وأحسبه سيزهو، كل 13 مارس/آذار من كل عام، بيوم ميلاد الشاعر محمود درويش. سيكون عمر الشاعر أربعة وسبعين عاماً يوم الجمعة المقبل، وسوف نستعيد زهونا، نحن الذين منحتنا الحياة فرصة العيش في زمانه الشعري.
كنت مراهقاً في مخيم عين الحلوة، حين قرأت كتاب غسان كنفاني "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة"، وكان محمود درويش من بين الذين تناولهم الكتاب، وسمعنا بأسمائهم أول مرة. هو الذي اخترقت أشعاره قلبي منذ ذلك التاريخ. التقيته مرات قليلة في حياته، وكنت دائماً لا أحبّ الاقتراب منه. كان اللقاء المفضل لي به وأنا جالسٌ في مسرح، أستمع اليه قارئاً شعره. هناك كانت المتعة العظمى في علاقتي به، فلم أجد ضرورة لعلاقة غير علاقة الشاعر بالقارئ أو المستمع لشعره، فلا أنا سأعطيه مني، ولا هو سيعطيني منه غير الشعر ومتعة الدخول في عالمه. ولكنني على الرغم من ذلك أحببته. أحببت حضوره بالمعنى المادي، وليس الرمزي وحسب. ولم يغب عن بالي يوماً، على الرغم من إيماني بكونيته شاعراً أنه فلسطيني، وهو بهذا المعنى يخصني شخصياً. لم يعجبني، يوماً، ارتداء البدلات الرسمية، ومع ذلك لم أتخيل أن جاذبية محمود درويش، وبهاء طلته، يمكن أن تفرضا كل ذلك السحر بغير ارتدائه البدلات الأنيقة. وعلى الرغم من خلفيتي اليسارية، في مطلع شبابي، إلاّ أنني كنت متسامحاً مع مظهر درويش البرجوازي زيّاً ومعيشةً.
ولو استطعت أن أصف طريقته بالحكي، حيث يقضم المفردات المنطوقة قضماً في أحيانٍ كثيرة، لابتعدت عن التحليل النفسي لهذه الطريقة، ولجعلت الخيال الشعري الواصف الوحيد. فعندما يتحدث، كان الشاعر وكأن الكلمات تفيض فيضاً منه، تزدحم وتتزاحم، في محاولة للخروج من فمه، وكل كلمة تحاول أن تسبق الكلمات التي قبلها، أو بمحاذاتها، أو بعدها، رغبة في غوثه، للتعبير عما يريد، حياءً وارتباكاً على ما أعتقد. ولذا تسقط كلمة هنا، أو تتعثر كلمة هناك، وعلينا، نحن الذين نستمع إلى حكيه أن نسارع إلى التقاط الكلمات وتمييزها، لإنقاذها من حيائه، وإنقاذه من ارتباكه.
سألني، في أول مرة التقيت به في رام الله، في مكتبه في "الكرمل": من أين أنت يا نصري أصلاً؟ فقلت له إن قريتنا في الجليل. فأجاب بطريقة تشي ببعض سخرية ومرارة: وهل تريد أن تعيش في رام الله، أم تريد الاقتراب من الجليل؟ كان تعليقه في صيغة سؤال كمن يتحدث إلى نفسه وليس إلي.
أحياناً كنت أغار منه، وهو الشخص الوحيد الذي أثار فيّ مشاعر الغيرة، فقد كان يكتب ما أحسّ به تماماً، وكأنني حدثته عن مشاعري قبل لحظات من كتابته قصائده، فراح هو وكتبها كما ولدت داخلي.
لم أحبّ كل قصائده. هناك قصائد تمنيت لو أنها لا تنتمي إلى ديوانه. وكنت أمارس لعبة سرية بيني وبيني مع قصائده، حتى التي أحبها. كنت أحرر بعض القصائد، أشطب جملاً أو مقاطع أحياناً. وكنت، في أحيان أخرى، أقدّم مقطعاً على المقطع السابق عليه، أو أزيح كلمات جانباً، وأنتظر حتى نهاية تلك اللعبة السرية، لأقرر فيما إذا كان يجب الإبقاء عليها حيّة في القصيدة أم أخفيها عني. فعلت ذلك في فيلمي عنه "كما قال الشاعر". مارست هذه اللعبة السرية، وأعتقد أن قليلين من المشاهدين انتبهوا إلى عبثي.
كنت مراهقاً في مخيم عين الحلوة، حين قرأت كتاب غسان كنفاني "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة"، وكان محمود درويش من بين الذين تناولهم الكتاب، وسمعنا بأسمائهم أول مرة. هو الذي اخترقت أشعاره قلبي منذ ذلك التاريخ. التقيته مرات قليلة في حياته، وكنت دائماً لا أحبّ الاقتراب منه. كان اللقاء المفضل لي به وأنا جالسٌ في مسرح، أستمع اليه قارئاً شعره. هناك كانت المتعة العظمى في علاقتي به، فلم أجد ضرورة لعلاقة غير علاقة الشاعر بالقارئ أو المستمع لشعره، فلا أنا سأعطيه مني، ولا هو سيعطيني منه غير الشعر ومتعة الدخول في عالمه. ولكنني على الرغم من ذلك أحببته. أحببت حضوره بالمعنى المادي، وليس الرمزي وحسب. ولم يغب عن بالي يوماً، على الرغم من إيماني بكونيته شاعراً أنه فلسطيني، وهو بهذا المعنى يخصني شخصياً. لم يعجبني، يوماً، ارتداء البدلات الرسمية، ومع ذلك لم أتخيل أن جاذبية محمود درويش، وبهاء طلته، يمكن أن تفرضا كل ذلك السحر بغير ارتدائه البدلات الأنيقة. وعلى الرغم من خلفيتي اليسارية، في مطلع شبابي، إلاّ أنني كنت متسامحاً مع مظهر درويش البرجوازي زيّاً ومعيشةً.
ولو استطعت أن أصف طريقته بالحكي، حيث يقضم المفردات المنطوقة قضماً في أحيانٍ كثيرة، لابتعدت عن التحليل النفسي لهذه الطريقة، ولجعلت الخيال الشعري الواصف الوحيد. فعندما يتحدث، كان الشاعر وكأن الكلمات تفيض فيضاً منه، تزدحم وتتزاحم، في محاولة للخروج من فمه، وكل كلمة تحاول أن تسبق الكلمات التي قبلها، أو بمحاذاتها، أو بعدها، رغبة في غوثه، للتعبير عما يريد، حياءً وارتباكاً على ما أعتقد. ولذا تسقط كلمة هنا، أو تتعثر كلمة هناك، وعلينا، نحن الذين نستمع إلى حكيه أن نسارع إلى التقاط الكلمات وتمييزها، لإنقاذها من حيائه، وإنقاذه من ارتباكه.
سألني، في أول مرة التقيت به في رام الله، في مكتبه في "الكرمل": من أين أنت يا نصري أصلاً؟ فقلت له إن قريتنا في الجليل. فأجاب بطريقة تشي ببعض سخرية ومرارة: وهل تريد أن تعيش في رام الله، أم تريد الاقتراب من الجليل؟ كان تعليقه في صيغة سؤال كمن يتحدث إلى نفسه وليس إلي.
أحياناً كنت أغار منه، وهو الشخص الوحيد الذي أثار فيّ مشاعر الغيرة، فقد كان يكتب ما أحسّ به تماماً، وكأنني حدثته عن مشاعري قبل لحظات من كتابته قصائده، فراح هو وكتبها كما ولدت داخلي.
لم أحبّ كل قصائده. هناك قصائد تمنيت لو أنها لا تنتمي إلى ديوانه. وكنت أمارس لعبة سرية بيني وبيني مع قصائده، حتى التي أحبها. كنت أحرر بعض القصائد، أشطب جملاً أو مقاطع أحياناً. وكنت، في أحيان أخرى، أقدّم مقطعاً على المقطع السابق عليه، أو أزيح كلمات جانباً، وأنتظر حتى نهاية تلك اللعبة السرية، لأقرر فيما إذا كان يجب الإبقاء عليها حيّة في القصيدة أم أخفيها عني. فعلت ذلك في فيلمي عنه "كما قال الشاعر". مارست هذه اللعبة السرية، وأعتقد أن قليلين من المشاهدين انتبهوا إلى عبثي.