معرفة قلب شكسبير: ابتكر جمهوره ولم يخدم أحداً

07 يونيو 2016
(المشهد الأخير من "الملك لير"، لندن/ 2008)
+ الخط -

منذ وقت قريب كتب روبرت وايت، أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة غربي أستراليا، أن مكانة الشاعر والمسرحي الإنجليزي وليم شكسبير (1564- 1616) تعرضت في ثمانينيات القرن الماضي للاهتزاز، وبدا أن هناك حركة منظمة تستهدف الحط من قيمته، بل والعمل على إزالة وجوده في مجالات الوعي الجماهيري، وترّدد في أكثر من دراسة ثقافية أن معنى عرض مسرحياته يتضاءل، وكذلك تقديرها، فطرازها قديم، ولا صلة لها بالأزمنة الراهنة.

وشاركت في هذه الحملة الحركات النسائية ونقّاد ما تدعى مرحلة ما بعد الاستعمار، ولكن سرعان ما أثبتت أفلام اعتمدت على مسرحياته، مثل فيلم "هنري الخامس" للمخرج كينيث براناه في عام 1989 والأصداء التي أثارها، وعرض مسرحية "روميو وجولييت" عام 1996 الذي اجتذب ملايين المشاهدين، أن كل ما أشاعته تلك الحملة من أن مسرحيات شكسبير لا يمكن أن تحظى بجمهور معاصر من كل الأعمار هي ادّعاءات لا أساس لها.

ولفت هذا الأستاذ النظر إلى حقيقة بارزة لصالح هذا المسرحي/ الشاعر، وهي أنه لم يعد ملكية بريطانية خاصة منذ بضعة قرون، بعد أن ترجمت أعماله على يد شخصيات أدبية بارزة، مثل غوته في ألمانيا، وباسترناك في روسيا، وحوّل مخرجون مشهورون من أمثال كوروساوا الياباني مسرحياته إلى أفلام، وقرئت سوناتاته مترجمة في لغات عديدة، بدءاً من لغة سكان أستراليا الأصليين، النونجار، مروراً بالأوردو والهندية والكورية وصولاً إلى الفرنسية والتشيكية... إلى درجة الثقة بأنها موجودة في كل لغة على وجه الأرض.

وارتدّت موجة الحط من قيمة ومكانة شكسبير، وتغيّرت النظرة إليه في مختلف الأوساط، وأعيد تأهيله كشخصية للألفية الجديدة في عام 2000، وفي عام 2014، تم الاحتفال بذكرى ميلاده، والآن نجده في العام الراهن وقد أصبح موضع اهتمام عالمي غير مسبوق بمناسبة مرور 400 سنة على وفاته، ويتأكد يوماً بعد يوم أنه لن يغادر الذاكرة.

يقول روبرت وايت، حتى لو حدث غير المفكّر فيه بهذه الطريقة أو تلك، وامّحت آثار شكسبير، تعابيره وشخصياته وكل ما يمت إليه بصلة، من العالم المعاصر، فسيظل تأثيره في كل مكان حولنا. لقد صنع الرجل تاريخاً وغير تاريخاً، وستظل باقية، على سبيل المثال، ما يقارب 2000 كلمة صاغها شكسبير أو جلبها إلى اللغة الانكليزية، ومئات عناوين الكتب والأفلام التي أخذت مقاطع من مسرحياته بلا خجل، ونجد بين الروايات الكلاسيكية مثلاً؛ "استعادة الزمن المفقود"، و"تحت شجرة غرين وود"، و"الصخب والعنف"، و"عالم جديد شجاع"، ونجد بين الأفلام "شمال بجوار شمال/غرب"، و"ثري وغريب"، و"كلاب الحرب"، ناهيك عن الكثير من الأعمال الأوبرالية والباليهات والسمفونيات والأغاني والمؤلفات الموسيقية المستوحاة من أعماله.

الأكثر إثارة هو ما يكشف عنه وايت حين يقول إن الاحتفالية الراهنة الجارية بشكل غير عادي، لا تستعيد الماضي فقط، بل تتضمن متابعة ما فعلته كلمات شكسبير المكتوبة في الوعي المعاصر، وكيف ساهمت في تشكيله. ويستحضر في هذا السياق صورة المناضل نيلسون مانديلا وهو يقرأ في سنوات سجنه ويعيد قراءة طبعة من أعمال شكسبير الكاملة، وصورة ماركس الذي كان غارقاً في قراءة مسرحيتين له؛ تيمون الأثيني والملك لير، وهو يعكف على كتابة الجزء الأول من رأس المال، ويشير إلى استفادة سيغموند فرويد في تحليله النفسي من سمات شخصيات مسرحياته. ويختم تذكيره بشكسبير بهذه العبارة: "علمنا شكسبير كيف نشعر ونفكر".

ويبدو أن مقالة وايت نبهت أستاذاً آخر في قارة أخرى هو مناش بتاشارجي، الشاعر وأستاذ الثقافة والتعابير الإبداعية في جامعة أمبيدكار في نيودلهي، فسارع في أوائل هذا الشهر إلى التقاط طرف الخيط، ناقلاً قضية شكسبير إلى صعيد آخر، فتساءل: هل افتقارنا إلى معرفة قلب شكسبير هو الذي يجعله لغزاً محيراً لا شبيه له في تاريخ الشعر والكتابة المسرحية؟

يشير بداية إلى أن ما قام به روبرت وايت من تذكيرنا بتأثير شكسبير على شخصيات فكرية وقيادات عالمية ليس فيه ما يدهش، لأن هذا الشاعر، كما كتب الفيلسوف الروماني إميل سيوران، بفضل ضربة حظ، لم "يخدم" أي شيء. وتفسير هذا أنه اعتمد على جمهور حيّ لتعزيز مكانة مسرحياته، وبدلاً من أن يقدّم لهذا الجمهور خطوط معركة مرسومة بصرامة، أنشأ مواقع تاريخية معقدة وصراعات بين أبطال مسرحياته، ويمكن القول إنه ابتكر جمهوره بقدر ما ابتكر أدباً لا يوالي ولا يخدم أحداً. وألا يضع إنسان كتابته أو تفكيره في خدمة أيديولوجية معينة أمر لا يمكن تخيله في غالب الأحيان في عصرنا.

معظمنا يستخرج تلقائياً أيديولوجية خفية من عمل أي كاتب، ونستخدم جوليا كريستيفا وماركس وميشيل فوكو وفرويد للاستدلال على المؤثرات وراء كلمات الكاتب. ولكن الصعوبة مع شكسبير تنبع من أنه لا يتكلم أبداً، شخصياته هي التي تتكلم. ولا تستطيع أن تثبته وتجبره على التلاؤم مع ظنونك. قد يكون لشخصياته وجهات نظر سياسية ومعتقدات، ولكن ليس شكسبير.

مثل هذا الكاتب لا يمكن التفكير بوجوده في زمننا المؤدلج بضراوة، زمن لا تسمح لنا فيه الحداثة بترف ألا نخدم أحداً أو شيئاً. نحن ضحايا قراءاتنا الخاصة بنا، ونحن مسكونون بأفكار الطبقة والفئة والعرق والتمييز بين الذكورة والأنوثة والاستعمار. وجعلتنا الآداب، دعامات السلطة الأقدم، على جانب من الوعي حاد وحرج يجعلنا واقعين في مصيدة الحذر الدائم من خيانة انحيازاتنا. ويعمل كتّاب هذه الأيام، ويواصلون العمل، في ظل النقد، تتولاهم خشية أن تجعلهم خيانة هذا الانحياز أو ذاك موضع طراد، ليس من قبل النقاد فقط، بل والجمهور أيضاً.

هل على الأدب الممتاز أن يخلو بوعي من الانحيازات؟ هل نحن بحاجة إلى نكتب في ظلال نقد أخلاقي مقنع بقناع الطهر السياسي؟ هل من المفترض أن يكون الأدب فناً "مستقيماً"؟

هل على الأدب الممتاز أن يخلو بوعي من الانحيازات؟ هل نحن بحاجة إلى نكتب في ظلال نقد أخلاقي مقنع بقناع الطهر السياسي؟ هل من المفترض أن يكون الأدب فناً "مستقيماً"؟

مثل هذه الأسئلة، وما تقترحه وتشير إليه، ستصدم ليس شكسبير فقط، بل و "دانتي" و "ثربانتس" و "رابليه"، فهؤلاء إن خدمت كتاباتهم شيئاً، فلم تخدم سوى الأدب وحده. ومنحتنا أعمالهم شخصيات معقدة وساخرة وماساوية وسياقات لايمكن أن تنسى.

وجاء النقد الحديث بفكرة الأدب "الملتزم"، تلك التي لم يؤكد عليها كتاب مثل كامو و جان بول سارتر فقط، بل وآخرون من تيار الواقعية الاشتراكية التي جعلت لينين يبعد ديستويفسكي بوصفه كاتباً عادياً دون المستوى، وجعلت ماو يمنع كتب شكسبير خلال الثورة الثقافية. وأعتبر الرجل الذي لايخدم أي شيء خطراً، ولكن المفارقة أن ماركس، وهو يكتب الجزء الأول من رأس المال، كان ذهنه مشغولا بمسرحيتين لشكسبير.

عوالم شكسبير خارجة على هذه النظرية أو تلك؛ وأكثر الصور تعبيراً عن قوتها وتأثيرها ما قدمه فالتر بنيامن المقتنع بأن أعماله حكايات مجازية، ويقول بنيامن نفسه أن المجازي في عالم الأفكار هو ما تمثله الأطلال في عالم الأشياء. وفكرة الأطلال ذات مكانة بالغة القوة والإيجابية في عمله، وأعاد إنتاجها بتولعه بالكتابة المتشظية. وشعرية الأطلال غير المكتملة يمكن أن تشخص تشخيصاً مثيراً بوصفها نوعية شكسبيرية، بمعنى أن قراءة شكسبير تظلّ دائماً تمريناً نقدياً غير كامل.

بالطبع، "انفتاح" شكسبير لا يتضمن خواءً سياسياً؛ ففي الوقت الذي يصعب فيه تثبيته في وضع محدّد، يوجد في الحوار الذي تنطقه شخصياته لب ساخر على الأغلب، وهذا هو سبب أن شخصياته يمكن أن تفسّر تفسيراً لا متناهياً، ويعاد تفسيرها.

ويعتقد الفيلسوف النمساوي/البريطاني لودفيج فتغنشتاين أن شكسبير يحاكي الحياة بضربات فرشاة عريضة، وليس بلمسات موجهة مما يستخدمها الفن التقليدي، ويرى أن شخصياته لاتعكس في مراياها العالم الخارجي بل عوالمها هي، ووجودها يقوم ضمن اللغة التي يبتكرها شكسبير والتي تمنحها الشخصيات صوتاً.

إن شكسبير لا يترك أثراً من أي نوع من آثار ذاته في أعماله، وهذا هو ما يسوء وينوء فلاسفة مثل فتغنشتاين، فيقول: ربما كان شكسبير خالق لغة وليس شاعراً.

إجابة على سؤال: هل ما يجعل هذا الشاعر غامضاً إلى هذه الدرجة هو افتقارنا لمعرفة قلبه؟ نقول؛ تظل هذه القضية خلافية إلى ما لانهاية. والأمر الذي لا شك فيه هو أن سيولة حقائق شكسبير تغيظ أي فيلسوف حتى صاحب الميول اللغوية مثل فتغنشتاين، لأن غياب الحقيقة يفسر غالباً على أنه خداع.

وعند هذا الحد يصل مناش بتاشارجي إلى القول إنه سيترك القضية في أحضان عبارة مأخوذة من سطور من مسرحية "هاملت":

"يمكن أن تشكّي أن النجوم نار
وأن الشمس تتحرك
وأن الحقيقة أكذوبة
ولكن لا تشكّي أبداً أنني أحب".

المساهمون