مصطلحات فلسطينية متآكلة

09 أكتوبر 2015

الحجارة الفلسطينية ضد جنود الاحتلال في قلنديا (6 كتوبر/2015/Getty)

+ الخط -
كلما قرأت نصّاً لتصريح من أيٍّ من الفصائل الفلسطينية، ينتابني ضحك يصل أحياناً إلى حد الهستيريا، وأُصاب بفيض من اليأس. لم تتطور لغة الفصائل منذ قيامها في نهايات الستينات، ولم تتأثر بما طرأ على اللغة السياسية من تغيير، مع التغيّرات التي أصابت العالم، وبُناه الفكرية. حتى التطورات التي قد يقول لك قائل إنها ظاهرة للعيان، ما هي إلا خضوع لما أصاب العقل السياسي من اندحار بدخول مفرداتٍ، ليست أكثر من معانٍ، تسللت إلى لغة الخطاب السياسي من الفكر الديني المهيمن على اللحظة الراهنة.
في سياق ما يجري حالياً في الضفة الغربية المحتلة صدر بيانٌ سياسي من (الفصائل الوطنية والإسلامية) يدعو السلطة الفلسطينية في رام الله إلى إعلان النفير العام، ووضع قوات الأمن الفلسطينية على أهبة الاستعداد لمواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلية. ولو أنعمنا النظر بتسمية (الفصائل الوطنية والإسلامية)، لهالنا حجم الخراب في الواقع التمثيلي الفلسطيني، ولرأينا الانقسام الذي لا فكاك منه يدمر أي إمكانية لما أراده الموقعون على البيان من إعلان النفير العام. ولو سألت عن الفروق بين الفصائل الوطنية وتلك المسماة إسلامية في ما له علاقة بفلسطين، والمهمات التي يجب أن يتصدّى لها الفلسطينيون الذين يواجهون سرطان الاستيطان وعجرفة القوة العسكرية الإسرائيلية، ماذا تعني، إذا كانت الفصائل الإسلامية فلسطينية الهوية، ومن هو المقصود بالتمييز في التسميات، هل يريدون من الشعب أن يميّز، أم من الأعداء أن يميزوا، أم يريدون من المرجعيات الدينية أن لا تصاب بالارتباك، وهي تقدم الفتاوى والتأويلات.
ثم ما هو النفير العام؟ هل هو غير إعلان الحرب ضد الاحتلال؟ وأين هي البنى التنظيمية القادرة على الحرب، وأين هي القدرات العسكرية التي من شأنها أن تشن حرباً يكون الانتصار فيها ممكناً، لا مجرد هوبرات وجعجعة فارغة. ولننظر إلى تصريحات الأجنحة العسكرية لتلك الفصائل التي تريد "زلزلة الأرض تحت أقدام المحتلين"، فمتى زلزلت الأرض زلزالها تحت أقدام العدو؟ وما هي قدراتنا على المواجهة تحت هذه الشعارات؟ صحيح أن هناك روحاً كفاحية عالية، نقدرها لدى شباب فلسطينيين كثيرين في الضفة الغربية، لكن ذلك ليس كافياً لإيجاد مشروع مواجهة حقيقية لقوة عسكرية هائلة، في ظروف إقليمية، تدعمها وتمدها بمزيد من القوة. هناك مفردات فلسطينية تحتاج إعادة النظر في معانيها، فالانتفاضة الأولى التي قدمت صورة عظيمة لكفاح الشعب الفلسطيني، واستطاعت أن تقلب المفاهيم في رؤية العالم لدولة إسرائيل في نهاية الثمانينات هي ليست الانتفاضة الثانية، ولا يجب أن تكون نفسها في الانتفاضة الثالثة، إن تحققت على أرض الواقع الراهن. الانتفاضة مفردة جميلة وجذابة للشعوب المقهورة، وطنياً واجتماعياً واقتصادياً، لكنها ليست مجرد مفردة سابحة في ملكوت الأحلام الوردية، أو ربما لا يجب أن تكون زهرةً، تقطف رحيقها فصائل قابعة في مضارب العجز والمصالح وارتباطاتها الإقليمية. والمقاومة، تلك المفردة العزيزة على قلوب كثيرين، وخصوصاً الذين لا يقاومون إلاّ في أسرة العجز والوهم، يحثون الهمم إلى المقاومة تفريغاً لحالات اليأس والانهزام الداخلي. المقاومة تعني تضحيات وتنظيماً للمقاومين وعائلاتهم ومحيطهم وللشعب كله، وليست خطابات نرددها. فرّغ العجز واليأس والضبابية الفكرية كل تلك المفاهيم من معانيها، والفصائلُ الفلسطينية، ولا أستثني أحداً، كلٌّ في موقعه وتاريخه العاجز وارتباطه، إمّا بالاتفاقيات مع إسرائيل، أو بالقوى الإقليمية، عاجزة عن توحيد جهود الشعب الفلسطيني ولا تعرف إلاّ الأشكال القديمة للنضال ضد الاحتلال، وهي تفتقد أدنى مقومات الصمود، أو حماية الشعب من الموت والدمار والجوع. علينا أن ننظر اليوم إلى صور الشباب والصبايا الذين يواجهون قوات الاحتلال والمستوطنين. هناك في الصورة تكمن التغييرات في المعنى الحيوي للجسد الطائر الطموح، في حركة الأجساد الفتية الحرّة المتحرّرة من الوهم، ومن قيود الفكر المتآكلة.


8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.