مساءلة الصدمة

26 ابريل 2015
منى حاطوم، "أحزان غارقة"، 2002
+ الخط -

لا يمكن عزل مأزق الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة عن تبعات النفوذ النفسي والفكري العميق الذي يمارسه مفهوم النكبة في طبقات الوعي الجمعي الفلسطينيّ. تشغل النكبة، بوصفها حدثاً ماضياً ومضارعاً في آن، مكانةً مأساويةً متفرّدة بين العذابات الإنسانية الكبرى، إذ لم تتراجع منذ 67 عاماً وحتّى اللحظة عن إنتاج شتّى صنوف الشقاء العابر للأجيال وللجغرافيا والأيديولوجيا، من دون أن يتوفّر في الأرض ما يكفي من العدل لإنهائها.

إلاّ أن سرديّتَها لم تُنسَجْ من وقائع وذكريات فحسب، بل ومن فجوات ومساحات صمت وإسْكاتٍ تمخّضت عن قطيعة قلّما التأمت بين نبرة فجائعيّة يخنقها العجز وأخرى نضاليّة لا تملك ترف الحزن والحداد.

في العقود الأولى بعد النكبة، غُيِّبَ خطابُ الصدمة لصالح فعلٍ ثوريّ لا يحتمل التعبير عن الضعف، ولا التعبير عن ألم وخوف الضحيّة. كان النسيان ضروريّاً لإنهاض الهوية الوطنيّة ولإطلاق المشروع التحرّري، فضلاً عن اقترانه بأعراض نفسية ما بعد – صدميّة (post-traumatic) كالتجنّب وفصل المشاعر عن الحدث لحماية الذات من ألم عظيم.

هذه العُصابيّة الصدميّة نجدها كامنةً في مصطلح "النكبة" الذي يحيل إلى الكوارث الطبيعيّة، في شرعنة مبكّرة وشاملة لعجز يراد به أن يكون مطلقاً ومفصوماً عن مسؤولية الذات المصدومة، وعن سياقاتها التاريخيّة المتتالية التي حفلت أيضاً ولا تزال بالمقاومة.

لكنّنا نشهد في العقود الأخيرة جنوحاً غالباً نحو سرديّة صدميّة تستأثر بكلّ المعاني ولا تسمح بتفكيك الرواية والبحث فيها عن أسئلة جديدة خافية قد يصعب، في حمّى الصراع المستعر واستحقاقات الإجماع الوطنيّ، الجهر بها أو الدفاع عن شرعيّتها. كمساءلة خطاب الصدمة التاريخيّة الذي يختزل الهويّة الوطنيّة في تحقيب ما قبل وما بعد نكبويّ ويعرّفها أساساً بصدمتها، متجاهلاً أو مقللاً من شأن تجارب وسيرورات جمعيّة سابقة ولاحقة على أهميّتها، وتحالف الصمت بين الأجيال الذي كرّس سلوكيّات اجتماعيّة وسياسيّة اعتمدت آليّات الكبت وتمويه الواقع وتنزيه الآباء، حقيقيين كانوا أم رمزيين، عن الخطأ، والاحتفاء الانتقائيّ والنخبويّ بفلسطين ما قبل الـ 48، الذي لا يخلو أحياناً من الـ"كيتش" والمحو والوعي المزيّف الذي يحنّط المكان في الذاكرة مفترضاً موته أو خروجه من الزمن.

أنتجت هذه السرديّة ذاكرة بعديّة (post-memory) يؤسَّس ميراثها الفقدانيّ من مشاعر وأفكار وتمثيلات لتلاحمٍ صدميّ بين الأجيال محكوم بأمْثَلَة الماضي والحداد غير المنتهي عليه وبانسداد الأفق الفرديّ والجماعيّ.

الخروج من المأزق الفلسطينيّ المثقل بعوامل داخليّة واستعماريّة وجيوسياسيّة معقّدة مرهون أيضاً بفتح سرديّة النكبة على قراءات مركّبة و تفكيكيّة تتجاوز ثنائيّة الهزيمة والانتصار إلى تعددّية تكامليّة تحيط بالجوانب السلبيّة والإيجابيّة؛ بما في ذلك التعبيرات المختلفة عن الحصانة الجمعية قبل وخلال النكبة وما بعدها: الإشعاع الثقافي الاستثنائيّ في بعض منجزه، والمقاومة بكافة أشكالها ومواقعها، لا سيّما البقاء والصمود المجتمعيّ لفلسطينيي 48 الذي يعدّ فعل التمرّد الأول على السرديّة الصدمية للنكبة لصالح سرديّة الحصانة التي تحتفي بالتماسك من دون أن تحجب مواطن الهشاشة والمعاناة.

المزيد من تطوير أدوات البقاء في الوطن وممارسة الحقّ فيه والعودة إليه، من داخل أو من خارج، هو نقيض النكبة وسطوة مفهومها الصدميّ، ومقاومة الاحتلال والاضطهاد بمشروع حياة وعدل هو حجر الزاوية لوطن حرّ وكامل للجميع، فيه متّسع لكلّ الماضي ولكلّ المستقبل. وللإنسان، الآن، قبل كلّ شيء.


(شاعر وباحث سيكولوجي فلسطيني/ لندن)