مزيد من الانصياع

15 اغسطس 2016
+ الخط -
على الرغم من مباشرتها وبساطة كلماتها، إلا أن أغنية نانسي عجرم "يا بنات.. يا بنات اللي مخلفش بنات.. ما شبعش من الحنية" حققت نجاحاً وانتشاراً، لأنها بمثابة احتفالية رقيقة بالأنوثة، حيث تنبع الحنية، بحسب الأغنية. لكن، السؤال هنا: ما الداعي لتأكيد المؤكد، لولا أنه ما زال، لشديد الأسف، يقع في دائرة الشك. ومع ضرروة الإشارة والتنويه إلى أن الصورة ليست عامة بالمطلق، غير أنه، في أحيان كثيرة، حين يولد صبي في قرية نائية، أو حتى في عاصمة كبرى في وطننا العربي غير السعيد، تعم العائلة فرحة قصوى، ويبدو الأب مزهواً، وهو الذي أنجب الذكر المنقذ، وتغدو الأم زاهيةً متباهيةً أنها أم الولد، تستمد أهميتها وجدوى وجودها من هذه الحقيقة حصراً، فيتوارى اسمها إلى الأبد، لتصبح، منذ تلك اللحظة، أم فلان، مستمدة نفوذها وسطوتها انطلاقاً من أمومتها. لأنها جاءت بولي العهد الذي سيحمي اسم العائلة من الاندثار، فيما يطمئن الموسرون منهم على ممتلكات العائلة من التبدّد على الغرباء، فلا يضطرون إلى حرمان البنت من الميراث، بوسائل ملتوية على شرع الله.
يتم الاحتفال ضمن ثقافتنا بالصبي، باعتباره إنجازا شخصياً وغنيمةً كبرى، يعرض على المهنئين الذين يدارون مشاعر الغيظ والحسد، مسلحاً بخرزة زرقاء ورقية وتعاويذ، وتقرأ الجدات المعوذات درءاً لأذى العيون التي لا تصلي على النبي، وتدعو عليها بالعمى.
أما حين تطل المولودة الطفلة على عالمٍ غير رحيم، تنكمش الأم على نفسها، ولا سيما إذا كانت صاحبة سوابق في خلفة البنات، يحدث كثيراً أن تدفع الزوجة ثمن فعلتها بإنجاب البنت طلاقاً وتشريداً، أو في أحسن الحالات، مشاركة قسرية مع ضرّة ولود وغير ودود، يعلق عليها أمل إنقاذ سلالة العائلة من الفناء.
يكبر الصغير والصغيرة؛ الأول يتربى على الاعتداد البالغ بجسده، باعتباره نقطة قوة ومصدر تميّز، يمارس حريته إلى أقصاها، محفوفاً بمباركة الجميع وإقرارهم. يرتدي ما يحلو له، من دون أن توجّه له كلمة لوم واحدة، يُتاح له أن يمارس أنواع الرياضة كافة، يسبح ويلعب كرة القدم، يركب الخيل، فيما تمنع الصغيرة من امتطاء درّاجة أو تعربش شجرة، ليس خوفاً من أن تدق عنقها، بل ذعراً على تمزق غشاءٍ، توفرت منه في الأسواق قطع غيار صينية الصنع!
يحتفل المجتمع الذكوري ببلوغ الفتى، ودخوله عالم الرجولة، يُتاح للشاب خوض التجارب العاطفية العديدة، وسط مباركة هذا المجتمع الشيزوفريني البائس وإقراره، فيما تلقن الصغيرة، منذ تشكل وعيها، أول دروس الإذعان والرضوخ لمنظومة قيم جاهزة، تبدأ الصبية معاناتها، حال هجوم دلائل أنوثتها الأولى. تعلن حالة طوارئ، ويفترض فيها أن تقوّس ظهرها، خجلاً من بلوغها الذي سيبعدها عن ملاعب الصبا، قامعة بركان الطفولة المتفجر في روحها، لاعنةً جسدها، وقد سلبها رفاق الطفولة الذين لم يكلفهم بلوغ النضج أي ثمن، على العكس تماماً، فقد منحهم مزايا كثيرة.
تتكثف الرقابة على الجسد المتفجر استجابةً لشرط الطبيعة، تصاب الأم بالهلع، يخيّل إليها أن ثمة مشروع ضحية جريمة شرف تعيش في بيتها، تبالغ في الحرص عليها، تعلمها الخجل من جسدها والتعاطي معه كأنه خطيئة، عليها أن تواصل الاعتذار عنها، ويلوح الزواج المبكر حلاً أمثل للخلاص من قلق الفضيحة، وعبء الحراسة المشدّدة على الروح المكبلة في جسدٍ حبيس، يصادر حقها في الاختيار والتحصيل الجامعي والعمل، وتزج في مؤسسة الزواج قبل اكتمال نضجها الفكري والجسدي. وسرعان ما تصبح أمّاً، من دون إدراكٍ، أو أي استعدادٍ لتحمل أعباء الأمومة، تمر حياتها في القهر والوحدة والملل، إلى أن يحين أوان نومتها الأخيرة، لتنشر الصحف نعيا صغيرا للفاضلة أم فلان وابنة فلان وأخت فلان التي قضت حياتها في أعمال البر والتقوى!
سيدة فاضلة أخرى تشبه ملايين النساء في عالمنا العربي اللواتي ترتب عليهن التكفير، مراراً وكثيراً، عن تهمة أنوثتهن. مزيد من الانصياع والمصادرة والتغييب.
دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.