قهوة سوداء ثقيلة خالية من السكّر

12 اغسطس 2024

(تغريد درغوث)

+ الخط -

بعد أن أمضيتُ أسبوعاً من الاعتكاف، وحيداً داخل جدران منزلي، اكتشفتُ أنّ صحبتي ليست مُمتعةً على الإطلاق، وبأنَّني شخصٌ مملٌّ لا تبعث مجالستُه إلا على مزيد من الكآبة.
كنتُ زعمت للزملاء في العمل أنَّني سوف أقضي إجازتي السنوية في تركيا. نصحني أحدهم بناءً على تجربته أن لا أفعل، لأنّ الغلاء الفاحش قد اكتسح هذا البلد، فلم يعُد وُجهةً ملائمةً لأصحاب الدخل المتوسّط من أمثالي، إضافة إلى أنّ الاتراك يُمارسون عنصريةً ضدّ السيّاح العرب، استغربت ذلك لأنّي اعتدت زيارة إسطنبول بميزانية مقبولة، حتّى إنَّني كنت أبتاع ملابسي من شارع الاستقلال عند ساحة تقسيم، وألاحظ أنّ الأسعار أقلّ بكثير من عمّان، ولم يحدُث أبداً أن تعرَّضت لأيّ سلوك عنصري هناك.
لم أعلّق بكلمة، لأنّي اعتدت منذ زمن طويل الاحتفاظ برأيي لنفسي،، لم تعُد تعنيني مجادلة أيّ كان في أمر مهما كان بديهياً، أكتفي بهز رأسي باستسلام، علاوة على أن الأمر لم يُشكّل أي فرق عندي، ذلك أنَّني لا أنوي السفر أصلاً، مُجرَّد كذبة بيضاء أطلقتها كي لا يُدرِك أيٌّ منهم مقدار كآبتي، ولإدراكي أنْ لا احدَ يهتمّ بما يدور في حياتي. في الحقيقة، لا شيء يدور في حياتي الكئيبة المملَّة، أذهب إلى عملي يومياً متثاقلاً ضجراً، فاقداً الإحساس بالحماسة لأيّ شيء، عاجزاً عن الفرح، غير راغبٍ في التواصل مع أيّ كان، حتّى إنّ أصدقائي لا يتجاوزن عدد أصابع اليد الواحدة. وأعترف أنّ رُؤيتهم لم تعُد تسعدني مثل السابق، يبدو أنّهم أدركوا ذلك، فكفُّوا عن مبادراتهم نحوي. لم يُزعجني تباعدهم، بل أحسست بشيء من الارتياح، لأنَّ التعب قد نال مني من فرط المجاملات الكاذبة، والثرثرة الفارغة، في الشؤون السياسية، إذ يُنظِّر الجميع ويَدَّعون فهم المرحلة السوريالية التي نعيشها.
حوارات ثقيلة أشارك فيها بصفة مستمع، لا لأنّي أتقن الإصغاء، بل لأنّني رجلٌ كسول ضجر ويائس من كلّ شي. ذهبت للتسوق كي لا أضطر إلى مغادرة المنزل، ابتعت ما احتاج إليه كلّه، من خضروات وفواكه ولحوم وبقالة، لم أنسَ إحضار بعض الحلويات والمُكسَّرات والعصائر والسجائر، والقهوة التي أشربها طوال الوقت، ما يُسبّب لي الأرق معظم الليالي، حتّى إنَّني اشتريت بعض الحلوى التركية للزملاء، كي لا يساورهم الشكّ في حكاية سفري المزعومة، وكما قلت لكم لم يكن أسبوعاً ممتعاً على الإطلاق، رغم مواظبتي على الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية، والأغاني القديمة التي أُحبّ، ورغم مشاهداتي عدداً كبيراً من الأفلام الدرامية والوثائقية والمسلسلات التي تتحدّث عن قصص المجرمين المُتسلسلين، ومحاولتي قراءةَ روايةٍ لكاتب غزير الإنتاج، تضمّ فائضاً من الثرثرة أضعفت النصّ، ودفعت بي إلى إلقائها جانباً، قبل أن أصل إلى مُنتصفها، ورغم استماعي لكثير من المحاضرات الفلسفية في "يوتيوب"، ولجوئي إلى المطبخ لإعداد بعض الأطباق التي أُحبّ، كما خصَّصت وقتاً للتأمّل في الحياة، التي فقدَت معناها عندي.
فكّرت أكثر من مرّة في فكّ الحصار عن نفسي، لكنّي التزمت وعدي أن أمضي في اعتكافي رغم كلّ شيء. وعندما انتهى أسبوع إقامتي الجبرية، قرَّرت زيارة أحد أصدقائي القُدامى، المعروف باكتراثه بالآخرين وتعاطفه مع أحزانهم، وقد عزمتُ على الفضفضة أمامه بما يعتمل في داخلي من أفكار سوداوية كئيبة، لأنّ الصمت التهمني وأرهق روحي. رحّب بالمكالمة رغم استغرابه مبادرتي. وصلت بيته، بدا متعباً حزيناً حين سألته كيفك؟ قال في خطوة وجدتها استباقية، "ضَجِر وعايف حالي.. معتزل في بيتي، وقررت إقفال بابي أمام كلّ من يأتيني شاكياً باكياً.. مش ناقصني طاقة سلبيه يا زلمه". ابتلعت ريقي، تنهَّدت عميقاً، وقلت باستسلام معك حقٌّ.
سألني كيف قهوتك؟... قلت: سوداء ثقيلة خالية من السكّر.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.