مرثيّة محمود عبد العزيز

18 نوفمبر 2016
+ الخط -
كان على الممثل محمود عبد العزيز أن يعيش أكثر من سبعين عاماً، لكنه الموت. ربما كان من الممكن أن يطوّر في حرفته سنوات مقبلة ذلك السحر الذي يستولي على مخيلة المتفرجين ويأسرهم ويأخذهم في منعرجاتٍ ودروبٍ من المتعة والدهشة التي يصنعها الأداء في هذا الفن الملتبس أمام التحليل النفسي. كان عبد العزيز في نهاية العشرينات عندما اكتشف أن هندسة الزراعة التي درسها ليست ما يبحث عنه في رحلة الحياة، فقد كان التمثيل هدفه الذي سيحدّد مسار حياته. وكانت السينما المصرية مكتظةً بنجوم التمثيل، لكن محمود عبد العزيز جاء بكامل حمولته إلى هذا العالم الغني بالمنافسة. كان شاباً وجميلاً، هكذا نستطيع أن نقول إنه كان شاباً جميلاً، وأبعد من الوسامة، كما درج وصف الرجال، وكان جماله، في بعض تجلياته، أنثوياً. وكان صوته ملازماً لصفاته تلك، فنادراً ما كان يعلو في الأدوار الأولى التي لعبها على الشاشة. كان صوته خافتاً هادئاً ورقيقاً، وفيه من الخفر والخجل ما يشي بوجل البوح بمكنونات شخصيته. وكان على محمود عبد العزيز أن يكبر بالعمر، لكي تتطور شخصية الممثل المؤدي ببراعة أدواراً تتطلب تلك الثقة العالية، بالطاقة على الإبداع، وإظهار المقدرة على تقمص شخصيات بعيدة وقصية عن شخصيته في الواقع. ولكي تزيل كل قراءةٍ أولى وسطحية لشخصيته، وتضع المتفرج أمام شخصيةٍ أخرى، غير ما نراه على الشاشة.
قليلون هم الممثلون الذين امتلكوا قدرات الإمساك بقوة التحكم بالصوت وملامح الوجه وحركات الجسد كاملاً، مع صحوة العقل المبدع، كما فعل محمود عبد العزيز، وربما هذا ما جعله ممثلاً مهيمناً على مخيلة الجمهور، وماسكاً ذاكرتهم ومانعاً للنسيان، وفاتحاً طرق التذكّر الذي لا ينقطع. سنتذكّر محمود عبد العزيز الذي طوّع الصوت، ليخدم الشخصية التي يؤديها بطريقةٍ لا يشبهه فيها أحدٌ من مجايليه. ليس الصوت الطبيعي الذي يميز شخصاً عن آخر، بل الصوت المُختَرع القادم من موهبة الأداء التي تزيح الضجر والرتابة، حتى في تقلبات الشخصية المؤداة في الفيلم أو المسلسل. سيتذكّر النقاد وعشاق السينما الأدوار الكثيرة العالقة في الذاكرة بعد رحيله. والممثل المبدع لا يفاضل بين دور ودور، فالمفاضلة مهنة النقاد، لأنهم خارج ذات الممثل، وخارج ذلك الضجيج والتشابك السيكولوجي الذي تزدحم فيه تلك الذات.
وعندما نحكي عن محمود عبد العزيز، أو نكتب عنه، سيكون من الظلم أن نسقط عليه تقييماتنا الآتية من أحكام مسبقة عن حرفة التمثيل، أو مواقفنا التي يختلط فيها السياسي مع الفني مع الشخصي. سوف نتذكّر بالضرورة "رأفت الهجان"، المسلسل الذي كشف فيه محمود عبد العزيز عن موهبة الأداء في حلقاتٍ كثيرة، ومن ذلك المشهد الفاتن في الحلقة السادسة من الجزء الأول، حين أجرى مقابلة هدفها اختياره لمهمته. ومن منا لا يذكر إبداع صوته المتغيّر في أقل من ثانية معبّراً عن الخوف من التفكير بالإعدام، والزهو بمهمته في الوقت نفسه. وسوف نتذكّر الشيخ حسني في فيلم "الكيت كات"، ليس شخصية روائية فقط، بل أداءً خارقاً للسائد. وكيف لنا أن ننسى أداءه في "الساحر" و"الجوع" و"إبراهيم الأبيض" و"القبطان" و"الكيف" و"باب الخلق"، بطريقة كان من الصعب أن يبدع فيها ممثلٌ غيره.
دخل عبد العزيز إلى مخيلة الجمهور، واستوطن قلوبهم في كل مكان من العالم العربي. ولم تكن شخصية رأفت الهجان التي جعلته نجماً محبوباً لملايين العرب، لأن الهجان كان بطلاً قومياً يعوّض الشعور بالهزيمة لدى العرب، فتماهى معه المشاهدون، فقد سبقه مسلسل "دموع في عيون وقحة" لعادل إمام الأكثر شعبيةً من عبد العزيز، لكنه لم يحظ بذلك الإعجاب، على الرغم من تشابه الثيمة، وتقديم بطل قومي بارع. وهنا، قوة الإبداع وعبقرية الأداء لدى محمود عبد العزيز التي لن تُنسى.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.