استطعنا أن نتجاوز شتاء مرسين بأعجوبة. الأولاد مرضوا وسعلوا كثيراً، ولكنّهم اعتادوا على ذلك في النهاية. لم أعد أنا الوحيد الذي يسعل في البيت بسبب التدخين السّام. ابني الذي في الرابعة من عمره صار يحمل قلم الرصاص إلى فمه ويدخّن ويسعل مثلي. كان يبحثُ عن معنى التضامن معي، وحصل عليه من دون عناء.
خرجنا أربعتنا برئات معطوبة بسبب شتاء مدينة بحريّة جاهلة كمدينة مرسين.
زوجتي تحمّلت شقاء كبيراً في منع البرد من قتلنا بمهاراته الهادئة، لدرجة أنّها صارت تركض إلى غرفة الأطفال حتى لو سمعت أنيناً قادماً من الشارع الجانبيّ لكلب يُعاني من الوحدة. أكثر شيء كانت تخافه هو ارتفاع حرارة الطفلين بسبب أمراض البرد. "ابن جارتنا. يا حرام. أنت تذكر طبعاً. كيف أصيب بتخلّف عقليّ بسبب حرارة البرد"!! تقول تلك الأشياء، والقصص المخيفة، عن جرائم الحرارة مع الأطفال البريئين، وأهزّ لها رأسي متأسّفاً.
الرطوبة قشّرت الدهان والكلس أسفل جدران البيت الذي استأجرناه، وبانت الأسنان الحادة للرطوبة تلمعُ على لحم الإسمنت العاري. وفي الليل، وفي الصمت المفاجئ لهذه المدينة البحريّة النظيفة، كنّا نسمع لهاث الرطوبة في أشغالها البطيئة. كنّا نسمع الإسمنت وهو يتمزّق ويتبلّل من مخيّلة الرطوبة التي ما إن تجد لها مكاناً صغيراً، ولو مليمتراً واحداً، حتى توسّعه راسمة أفعى طويلة وسمينة من البلل في بطن أيّ جدار.
في الليل، عندما كنتُ أعود من مناوبة تغطية الأولاد وتهوية الغرف، كنت أضع باطن كفّي على جدار من الجدران كي أقيس نبض الرطوبة، ولكي أعرف إن كان نبض الجدار في حدوده الطبيعيّة أم لا. ومرّات كنت أضع أذني على الجدار كي أسمع آهاته وأنينه تحت سياط الرطوبة التي كانت تنزل عليه ببطء مخيف.
اكتشفنا، ليلة بعد أخرى وأسبوعاً بعد آخر، بأنّ الكوابيس التي صرنا نشاهدها لم تكن تخصّ أناساً سكنوا قبلنا في هذا المكان؛ بل كانت تخصّ الجدران. ليس من الأنين عرفتُ ذلك؛ بل أيضاً من الملمس الرطب والبارد لتلك الأحلام، ومن نثارات الكلس، ورائحته، التي كنّا نزيلها عن رموشنا وثيابنا كلّما استيقظنا في الفجر أو في الصباح، ونتفُّ شخصيّات غريبة من فمنا.
خمسة أشهر قضيناها في الحرب الباردة هذه. وجاء الأمل بوجود منزل فرغ من أصحابه الذين سيعودون إلى مسقط رأسهم في مدينة أخرى. ذهبنا مع السمسار التركيّ، الذي يُجيد العربيّة أيضاً، إلى ذلك المنزل الجميل في الطابق الأوّل. كنّا متلهّفين، أنا وزوجتي، لرؤية بيت لم يتحوّل بعد إلى ساحة قتال.
غشّتنا البرودة التي استقبلتنا في مدخل البناء، لأنّنا ظننّا لوهلة أنّ الرطوبة هي التي فتحت ذراعيها وضمّتنا نحن النازحين الأبدييّن من سوريّة. توقفت زوجتي عند الدرجة الرابعة، فتوقفتُ. ولكنّ ثرثرة السمسار التركيّ لكزتنا، ثم دفعتنا من أكتافنا لمواصلة صعود الدرجات العشر الباقية.
النسوة الثلاث كنّ قد أنهين تنظيف المنزل من الذكريات التي ألّفنها- خلال الأسبوعين الماضيين من عطلتهنّ- عن وظائف نجهلها. انتبهتُ، ونحن نتجوّل معهن للتعرّف إلى سحنة البيت، بأنّهن لم يتركن ولا أصغر ذكرى تفلت من مهارتهنّ في تلميع المكان. لم نعثر على شعرة واحدة حول البانيو الرخاميّ، طالما أخذن الأسرّة منذ ساعة إلى الشاحنة التي لا بدّ تتمتّع بالأنين الخافت للأشياء على ظهرها. كنتُ أفكّر بإخلاص الزوجين لسريرهما الذي ينقلانه كلّ هذه المسافات كي لا يشعرا بالعجز من دونه.
كلّ شيء كان نظيفاً ولامعاً. حتى الهواء كان يبدو وكأنّنا أوّل من يتنفّسه في هذا المكان. كان يبدو الأمر وكأنّ لا أحد قد أطلّ من الشرفات، كي لا يكتشف أحد دموعاً في عينيه. ولم يركض الزوج مسرعاً إلى الحمّام كي يتقيّأ هناك. كان يبدو أنّه اعتاد أن يتقيّأ خلال الأحلام البغيضة القليلة، التي كانت تشغلّها ديدان السكري المحلاّة، وكانت زوجته الرقيقة تساعده في ذلك ولا تقرف.
"إنّها عائلة سعيدة في بيت سعيد". قلنا ذلك لبعضنا، دون أن ننطق أنا وزوجتي بحرف واحد.
كنّا قد انتهينا من النظرات الجانبيّة السعيدة لصحّة الجدران، عندما سمعنا السمسار التركيّ يقول لصاحبة البيت: "إنّهم عراقيّون"! بعد أن سألته:"هل أنت متأكّد أنّهم ليسوا سورييّن؟ أنت تعرف. زوجي لن يؤجّر البيت لسورييّن". وكان السمسار يصرّ على أنّنا عراقيين، ويده تتحرّك في جيب سترته وكأنّه يبجث عن مصحف صغير فيه، كي يُخرجه ويحلف عليه.
أنا سوري يا سيدتي. قلت لها فشهقتْ، وهي تغطي فمها بيد مرتعشة من الصدمة. وكأنّني قلت لها بأنني والد الجنين الذي في بطن ابنتها، وما عدت أرغب في الزواج بها اتقاء للعار! ثم أكملتُ، وأنا أرى فمها ينفتح أكثر، أنا سوري. كي تدخل كلمتي الأخيرة بكاملها إلى جوفها، وتشعر بطعمها الحارق الذي في جوفي.
نزلنا الدرجات الأربع عشرة بهدوء ونحن متشابكي الأيدي. ومشينا في وسط الشارع كأي خارقين علنييّن للقانون هنا. وضعت يدي على كتف زوجتي، كي لا تشعر برجفة أصابعي في يدها، كي لا تشعر بحرقة عينيّ من شقوق الحظ المتعثّر في باطن كفّي، وهي بدورها وضعت يدها حول خصري.
الجيران الذين يشربون القهوة التركيّة السيّئة، في هذه الأوقات، سيحسدوننا مراراً على حبنا الذي يرفس الهواء حولنا كظبي صغير ما عاد يعيش في براري بلدي. سيقولون، مراراً أيضاً، هذان السوريّان اللطيفان لا يملاّن القرب من بعضهما هكذا. إذ لم يكن بإمكانهم أن يتذوّقوا طعم وحدتنا من مكانهم العالي.
كنت أريد أن أهمس في أذنها: هل عرفت الآن ما طعم الغربة؟ ولكنّني تراجعت. بينما قالت لي ذلك بضغطة من كلّ أصابعها على كِليتي اليسرى.
وعدنا إلى البيت. وكانت الرطوبة قد أطعمت الطفلين في غيابنا.
* شاعر سوريّ مقيم في مرسين- تركيّا.