بيروت... العام الأوّل بعد غزّة

07 أكتوبر 2024
العمل رقم 9 من مجموعة "درس في الطيران" لـ هاني زعرب، مواد مختلطة على قماش (2011)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تتسبب الطائرات المُسيَّرة في بيروت في زيادة القلق بين السكان، مما يعكس الصراع المستمر بين القوى المختلفة ومحاولات السيطرة الجوية، بينما تعاني المناطق الجنوبية من آثار "عقيدة الضاحية" المدمرة.

- يعبر النص عن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، حيث لم تستفد المنطقة من الانتفاضات السابقة، مع وجود فئة تعبد القوة، مما يعقد المشهد السياسي.

- النزاعات تؤثر على الحياة اليومية، حيث يضطر الكثيرون للنزوح، ويصف الكاتب حالة الجمود في بيروت، حيث لا جديد يُخلق ولا قديم يُفقد.

في ظهيرة بيروتية يمرُّ فتى وأمُّه مُحمَّلَين بالأغراض، مشهدٌ من المفروض أن يكون روتينياً، لكنه ليس كذلك بعد أن صار صوت الطائرات المُسيَّرة - فوقنا - يشغل المدينة بأسرها في كلّ دقيقة وكلّ لحظة. يقف الفتى لبُرهة ويختلس نظرة فضولية إلى السماء، ويقول مبتسماً ابتسامة المُراهِق الغرّ: "ليكِ وينها فوقنا"، فتنهرُه بذُعر الأمّهات: "لا تطلّع ولك لا تطلّع". يضعُ كلٌّ منهما نظرَه في الأرض ويجُدّان في السير. ها هي المستعمَرة تُنازِعُنا سماء المدينة، وتريد قهر الناس حتى لا يرفعوا رؤوسهم إليها مجدّداً، أمّا على الأرض فـ"عقيدة الضاحية" تنهش جنوب العاصمة، والبقاع وصيدا وصُور وقرى الجنوب، وأمس طرابلس، بالقنابل والفوسفور الأبيض.

بدأ عامُنا الغزّي في مثل هذا اليوم، بدأ من سماء الحصار الذي كسرته قفزةٌ فوق سِلك شائك وطائرةٌ شراعية، ربّما تكون أبلغ التمثيلات عنها مجموعة التشكيلي الغزّي هاني زعرُب "درس في الطيران". لكن كيف هو المشهد اليوم من بيروت التي لا أحد سانَد واحتجّ مثلها طيلة عام، ولا أحد قال ما يجب أن يُقال كما فعلت منذ اللحظة الأولى (طبعاً بيروت بيروتات حتى لا نُفرِط في رمنسة مدينة قُتِلت مراراً بجرعات زائدة من الحنين إلى المُتخيَّل). وعلى سيرة اللحظة الأولى، أحتفظ بصورة "قديمة" لمجموعة شُبّان في مظاهرة أمام السفارة المصرية بتاريخ 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كلّما نظرتُ إليها أحسُّ وكأنّ دهراً قد مرّ لا عاماً واحداً... يا للزمن المُتسارِع.

مُسيّرات تستعمر سماء المدينة وعلى الأرض "عقيدة الضاحية"

هذا كلامٌ عامٌّ كان لا بدَّ منه قبل أن ندلف لما نريد قوله: إنّنا لسنا بخير، ويُزيِّف المرء على ذاته وعلى الآخرين حين يقول عكس ذلك. وهذه مسؤولية طالما تمّ التنصُّل منها منذ معارك الخمسينيات والستينيات، وطالما جرى تحميل التبعات والنتائج كلّها لـ"ظروف المعركة مع العدو"، وإلى آخره من هذه العبارات، حتى رسونا في نهاية المطاف على أبشع أنواع الأنظمة الديكتاتورية. إنّنا لسنا بخير اليوم، وباختصار شديد، لأنّنا أسلمنا أمرنا لانتفاخ اليقين في ذواتنا، ولأنّ صخبَ كوننا ضحايا ونتعرّض لأبشع أنواع الإبادة قد طغى على أدائنا السياسي، في حين أنّ السياسة بطبعتها الدولية الذئبية القائمة غير مُبالية ولا تتأثّر بمثل هذا النوع من الكلام. ونحن لسنا بخير، لأنّنا لم نتعلّم من دروس ومآلات انتفاضات العقد الماضي وكيف تعامل معها "العالم الحُرّ". لذا، يبدو أنّ دروس الطيران التي فاتتنا كثيرة، وأوّلها وأقربها إلينا نقدُ اليقين الراسخ في مشهدنا السياسي والفكري. ونحن لسنا بخير، لأنّ هناك غائيّين يعبدون القويّ، يتغنّون بـ"إنجازاته" وينتظرون حسم المعركة إسرائيلياً، لنسمع كلمتهم الأُولى بعد الإبادة: "ألم نقل لكم؟".

من الضاحية - القسم الثقافي
حي المريجة في الضاحية الجنوبية بعد العُدوان الإسرائيلي، 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 (Getty)

في الأمس قصفوا "المصنع"، إنه المعبر البرّي الرئيسي الواصل بين سورية ولبنان، فعبَر النازحون، سوريين ولبنانيين، سيراً على الأقدام، إلى ضفّة سوريّة من المفترض أن تكون "آمنة"، لا ليس الأمر بهذه السهولة. السوريون هم أصلاً كانوا قد نزحوا إلى الجنوب والبقاع قبل عقد، وقتلت "إسرائيل" منهم منذ بدء العدوان أكثر من 170 شخصاً، يا للتيه الذي كُتب على أهالينا. أقرأ تعليقات سريعة للكاتب عباس جعفر الحسيني عن حال التغريبة العاملية بعد نزوح قرابة مليون من أبنائه، يُنهيها بعبارة "علِّمْني يا جبل عامل كيف أرثيك؟"، وأقول كم تليق هذه العبارة بأحوالنا المشرقية وقد مضت عقود من استقواء بعضنا على بعض فانتهينا إلى ما انتهينا إليه من خراب مُعمَّم لم يوفّر أحداً. هذا عن حال المَعبر البرّي، أمّا المطار المدني - عُدنا مرّة أُخرى لدروس الطيران - فيحاول الاحتلال تطويقه وقصف محيطه، وبثّ الذعر بين الناس بإشاعة نيّته فرض حصار جوّي، وسبق أن قصفته "إسرائيل" بالفعل عام 1968، ولم تتردّد حينها عن تدمير 13 طائرة من السرب اللبناني.

في كتابه "بيروت والزمن" يقرأ المؤرّخ كمال الصليبي (1929 - 2011) ثُلاثيةَ الروائي ربيع جابر "بيروت مدينة العالم" بلا تفجُّع وبلا استنهاضِ مظلوميات تحترفها شعوبنا بين النكبة والأُخرى. يقرأ المؤرّخُ المعروف بتفكيك الأساطير والخطابات ويقف عند رؤية جابر للزمن، بعد أن حدّثنا عن "الشخصية الخالدة": عبد الجواد أحمد البارودي (الهارب من دمشق) وبِكره "شاهين" الذي تمرّد عليه "نظر إليه نظرةً تفلج جملاً، بنظرة مجرم يُريد أن يخنقه بيديه العاريتين"، ثمّ خرج من بيت أبيه، لاحقاً يفقد شاهين الذاكرة، ويُقاتل بجوار أخيه عمر مع الجيش العثماني ضدّ الروس... إلى آخر هذه التراجيديا البيروتية والوطن اللبناني المُؤسَّس على "النزوح من الجبل" كما يكتب.

يُؤثِر الصليبي مفهوم الزمن على الشخصيات ليقرأ حال المدينة من خلاله، فبيروت ربيع جابر، وفقاً للصليبي، لا جديد فيها يُخلَق ولا قديم فيها يُفقَد، بل كلّ شيء يتحوّل: "ألفُ عام ماضية في ألف عام واردة هو ذا الوقت، ولا تغرّنّك الأشباح"، وفقاً للصوفية، أو كما يقتبس الروائي من رسائل الحكمة الدرزية مقطعاً بليغاً: "لأنّ الحجاب هو المحجوب والمحجوب هو الحجاب. ذلك هو وهو ذلك. لا فرق بينهما". وكذا هي أحوالنا في المدينة اليوم باختصار، رغم ما نشعر به من انكسار وتسارُع زمن طوى في شهر ألف عام ماضية بألف عام واردة.
 

المساهمون