استمع إلى الملخص
- نشأت حالة من "المقاومة الثقافية" مع هذا التاريخ، مما حول القضية الفلسطينية إلى قضية معرفية بجانب كونها سياسية، مؤثرة على الفكر العالمي وتحدي الهيمنة الثقافية.
- أفرز الحدث مسارات ثقافية جديدة مثل معرض في باريس ومجلة تركية، بينما ظل الخطاب الثقافي العربي مشتتًا، مما أثر على وعي جيل كامل.
ثمّة إشكالٌ زمنيّ يتعلّق بالسابع من أكتوبر/ تشرين الأول كونه تاريخاً؛ فالسابع من أكتوبر هو حدث، فعلٌ مستجدّ، لم يسبقه فعلٌ يوازيه أو يضاهيه في الحياة الفلسطينية، وأثره الثقافي والرمزي وحتّى الذهني هو أثرٌ ممتدّ حتى اللحظة على نحوٍ ملحوظ، وهو أثرٌ عام، جماعي وجمعي.
الإشكال أنّه يوجد تاريخان مفصليّان بدآ في اليوم نفسه، أو في السابع ثمّ الثامن من أكتوبر؛ فالسابع هو زمن الحدث المسمّى "طوفان الأقصى"، أمّا الثامن فهو تاريخ بداية مجزرة إبادة جماعية جديدة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الغزيّين خاصّةً والفلسطينيّين عامّةً.
يُصبح هنا لا مناص من الفصل بين التاريخَين؛ فالأوّل ناشئ، جديد، طارئ، أمّا الثاني فهو مسارٌ تاريخيّ للاحتلال. الإبادة مثلها مثل النكبة حسب وصف الراحل إلياس خوري "مستمرّة، وهي ظلّت تحدث بعد عام 1948 وحتى الآن". والإبادة هنا هي أيضاً أسبق من السابع من أكتوبر، كانت تحدث قبله، واستمرّت بعده.
الإبادة أسبق من السابع من أكتوبر، كانت تحدث قبله واستمرّت بعده.
سرعان ما اختلطت السردية التي خلقها الفعل/ الحدث (أي السابع من أكتوبر) بالسردية التي استوجبتها الإبادة، فارتبط التاريخان، وليس ثمّة ما يعيب ارتباطهما، فكلاهما أصبحا واحداً، لكنّ الفصل ضرورة، فصل المجزرة عن الحدث، وتوصيفها بأنّها مسارٌ تاريخي لكيان استعماري هو شيء ضروري يُميّز القاتل عن القتيل بالقول: السابع من أكتوبر فعلٌ وردّة فعل، في آنٍ معاً، على مجازر ومذابح أكثر من أن تُحصى في مسار الاحتلال. أمّا الإبادة فليست إلّا استمراراً لهذا المسار.
وقد نشأت مع هذا التاريخ حالةٌ جمعيّة، اشتبكت فيها الفضاءات جميعها. يمكن تسميتها وإطلاق عدّة أوصاف عليها، لكنّ التعريف الأدّق قد يكون "المقاومة الثقافية" كما يعنيها رولاند بليكر، وهي تلك التي "تقع في عدد لا يُحصى من الممارسات غير البطولية التي تُشكّل عالم الحياة اليومية وروابطها المتعدّدة بالحياة العالمية المعاصرة"، أو كما يصفها إيلان بابيه بأنها "تؤكّد كيفية استخدام الممارسات الثقافية المختلفة لتحدّي ومحاربة قوّة مهيمنة، وغالباً ما تبني رؤية مختلفة للعالم في أثناء هذه العملية".
قد يبدو من المبكّر القول إنّ الحدث (السابع من أكتوبر، وما تلاه) خلق معه في العالَم وجهة نظر جديدة عن العالَم (نستعير المصطلح هنا من لوسيان غولدمان)، لا سيّما على الصعيد الثقافي. إذ بات يُنظَر إلى القضية الفلسطينية على أنها قضية إبستمولوجية (معرفية) بالتوازي مع كونها قضية سياسية. وهو ما أراده الفيلسوف والمؤرّخ الإيراني حميد دباشي الذي تثير فلسطين بالنسبة إليه، من بين ما تثير، مشكلةً معرفية تتعلّق بطريقة إنتاج أوروبا وأميركا الشمالية المعرفة. وملخّص ما يريد دباشي قوله، من مقالة له عنوانها "أين فلسطين من العالم؟"، هو التالي: "ليست القضية الفلسطينية مجرّد نضال شعب واحد من أجل وطنه، ففي هذا النضال صنع الفلسطينيون 'عالماً' خاصّاً بهم، ننخرط فيه جميعًا لنُعيد تخيُّل جميع النضالات التي شهدتها العصور وصولًا إلى عالمنا المعاصر المتشكّل، إلى حدّ أنّ المناضلين من أجل العدالة في جميع أنحاء العالم صار العالم لهم كلُّه فلسطينيًا. إنّ المكان الوحيد لفلسطين في العالم (قبل الصهيونية وبعدها) هو بإعادة صياغة العالم بأسره على أنّه لا تمكن معرفته إبستمولوجياً إلى أن (أو ما لم) يكون للفلسطينيّين أيضًا مكان في العالم".
أنتج السابع من أكتوبر باعتباره حدثاً مسارات ثقافية ومعرفية جديدة، ولو كانت نادرة، نذكر منها إنتاجين فقط: معرض "ما تُقدّمه فلسطين للعالم" الذي أُقيم السنة الفائتة بعد مجازر الإبادة في "معهد العالم العربي" بباريس والكتاب الجماعي الذي صدر عنه باللغة الفرنسية ضمن السلسلة الدورية "عربوراما" بالاشتراك مع دار النشر الفرنسية "سوي"، وكذلك العدد الخاص الذي قدّمته مجلة Yeni e التركية بعنوان "النضال الثقافي لفلسطين".
يبدو مؤسفاً أنّ الخطاب الثقافي العربي ظلّ مشرذماً ومحصوراً في مواد متفرّقة وعشوائية بعد الحدث/ ثمّ المجزرة. ويبدو أنّه من الصعب البحث عنه. لكن نشأت، بدلاً منه، هزّةٌ في وعي جيلٍ كامل، أحسّ بضرورة الاشتباك مع الفضاء/ الشأن العامّ، بالأدوات التي تبدو مُتاحة وممكنة الآن: العالم الرقمي.
* كاتب فلسطيني