كانت مارلين تحبّ قراءة الكتب. كان ذلك ملجأ آمناً لها، في الوقت الذي كرهت فيه صورتها النمطية كفاتنة حمقاء، ووجدت أنها لن تهرب من هذا الخناق سوى نحو الداخل، فبدأت تكتب الخواطر والرسائل وأحياناً قصائد.
خربشات مارلين نجدها فوق جذاذات وأنصاف أوراق، أو في طيّات كتبها. وفي مرحلة لاحقة، أصبحت الكتابة هواية، فكانت توفّر الوقت لتستعمل الآلة الكاتبة في ممارسة هوايتها الصغيرة. لم يخطر على بالها أن تجمع مذكراتها؛ كانت الكتابة من أجل أن تجمع عناصر ذاتها.
تغيب عن كتاباتها الفترة الممتدة من سن 18 إلى منتصف العشرينات من عمرها، كانت وقتها مشغولة تماماً بالأحلام، وفي فترة ثانية كانت مشغولة بتحقيقها. البدايات المتعثرة في هوليوود شبه مغيّبة أيضاً، ولكنها تعترف في كتابات لاحقة أنها حين قابلت كبار المثقفين مثل ايليا كازان أو هنري ميللر أو تينيسي ويليامز اكتشفت حجم فقرها المعرفي.
كتبت في الخمسينات تقول "كم كنت تافهة، أنا لا أعرف شيئاً عن الفن ولا أعرف أسماء الرسّامين والموسيقيين، وليس لي علم بالتاريخ أو بالأدب". دفعها هذا الوضوح مع النفس لكي تذهب لدراسة تاريخ الفن، وتُغرق نفسها في كتابات جويس وكونراد وهيمنغواي وفرويد وفي الكلاسيكيات الأدبية.
تتغيّر اللهجة في نهايات الخمسينيات، فلم نعد نجدها تحاسب نفسها بل نجد انعكاساً للمسار الجديد الذي خضعت له. كثيرة هي الصيغ الحكمية في كتاباتها وقتها، مثل "إن الممثلة لا تملك فماً" أو "استمعي بعينيك" أو "أنا لا أؤمن سوى بأحاسيسي الهشة والخافتة الصوت".
صحيح أنها حازت مجدها بفضل جمالها المغشوش –لم تكن مارلين شقراء حقيقية- ولكنها مذكّراتها فقط هي التي تجعلنا نشعر بأنها تستحقه. ففي الكتابة تطوّرت شخصيّتها التي كان الناس يلامسونها وهم منبهرون بالقشرة الجميلة.
حينما حصل التناقض بين العالم الداخلي لمارلين والصورة التي تظهر للجمهور، لم تعد هناك حلول وسطى. لم تعد تريد أن تكون "الضوء الذي يهدي الناس إلى شبابيك قاعات السينما" كما يراها داريل زانوك منتج شركة فوكس.
لقد حاسبت نفسها حين خسرت زوجاً كان يمكن أن يسعدها من أجل حفل التصوير الشهير بفستان طائر. في المخطوطات نجد أنها فكّرت في إنشاء شركة إنتاج لتتحرّر من قيودها، لم تكن حاسمة ولم يكن لديها الوقت لتحقيق ذلك.
نجد صدى لتردّدها على العلاج النفساني في ورقة فاتورة إقامة في نزل، كتبت: "أفضل الجرّاحين يبنّجني، وعلى ستراسبيرغ أن يشق على جسمي فقد هيّأتني الدكتورة هوهنبارغ لذلك. هذه العملية الجراحية لازمة". بدأت ملامح كتابة كابوسية تبرز في كلماتها.
سيكون لوجود هنري ميللر في حياتها أثره الكبير على كتاباتها، ورغم أنها تشير إلى أنها "تعلم أن الاقتراب من ضوء الشمس يجعل أي شيء يلمع منطفئاً"، فإنها نجحت في المحافظة على هوايتها وحمتها من تأثيرات ميللر المباشرة.
في مخطوطة نقرأ: "سأكون إنساناً لم أقابله بعد، أستطيع أن أحبّه وأن أمنحه الثقة العمياء". لكن مارلين لم تكن تثق في نفسها أصلاً، وكانت تلك هي اليد التي سحبتها إلى الأسفل. لقد كانت وهي تحاول الهروب من صورتها النمطية، تهرب من كل شيء حتى أنها هربت من الحبّ.
في الكتابات تظهر حياتها المهنية الناجحة ككابوس، تقول: "منذ أن أقف أمام الكاميرا أُضيع هدوئي، إرادة الإبداع موجودة ولكنني لا أحتمل كل هذا الضغط. أنا أّتجه نحو الجنون". من أبرز ما كشفت لنا مخطوطاتها أنها قرأت خلسة يوميات زوجها هنري ميللر، ووجدت فيها أنه يعيش خيبة أمل تجاهها، لقد تصوّر أنه منحها ما تريد ولكنها لا تعلم ما تريد.
بعد ذلك كتبت معترفة أنها لا تستوعب تماماً أن تكون امرأة لرجل. كانت طفولتها غير العائلية تشدّها كخيوط العنكبوت. قليلة هي الإشارات لسقوطها في الخيانة الزوجية التي غمرت بها حياتها في بداية الستينيات أو دخولها في نوبات عصبية وتوترات نفسية حادة.
لعل أروع ما كتبت هي هذه الكلمات الواضحة والبسيطة والعميقة: "لدي إحساس عميق بأنني لست حقيقة بشكل تام، بل إنني زيف مفتعل ومصنوع بمهارة، وكأنني لست إلا إنتاجاً سينمائياً أتقنوا إخراجه".
كان ماك كولورس أول من علّق على كتاباتها حين جُمعت، وسادت موجة التعليقات السطحية حول اكتشاف عبقرية أخرى لدى مارلين. قال إنه اندهش لحجم البراءة التي تحكم شخصية مارلين، ولكنه يضيف أنها "ليست بالكاتبة الكبيرة أو المتمرّسة لكي تكون كتاباتها شفافة فنرى ما في داخلها بوضوح. نحن نجد فوضاها الداخلية ساطعة ورائحة احتراق أعصابها، ونقيّمها كنجمة تكتب خواطرها".
كذلك قرأ الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي مخطوطاتها، ووجد فيها روحاً أجمل من أيقونة مارلين. مخطوطات اعتبرها "شهادة على الجريمة التي تقترفها النجومية". إنها أيضاً شهادة عن سوء الفهم الذي يحكم علاقة الفنانين مع محيطهم، ولا توجد وثيقة تستطيع أن تفسّر نهاية مارلين المأساوية مثلها، إنها وثيقة نعرف من خلالها كيف يعيش الجمال بؤسه الخاص.
* جان مارك باريسيس (1962) صحافي أدبي فرنسي وروائي. كُتب هذا المقال لمجلة "لوفيغارو ماغازين" في الذكرى الخمسينية لرحيل مارلين مونرو (1926-1962).
** ترجمة عن الفرنسية: شوقي بن حسن