مخبرون هواة وآخرون محترفون

28 نوفمبر 2014
أدهم إسماعيل (1922-1963) / سوريا
+ الخط -

يقف الروائي حائراً أمام الشخصية الجديدة التي تسعى إلى اقتحام السرد بكامل عدّتها، شخصية المخبر المتطوّع. ففي معظم الروايات التي ذُكر فيها المخبر، كانت "السرية" قرينة لازمة لوجوده.

فالمخبر في صورته التقليدية لدينا، محترف، يرتزق من المكتوب أو الشفهي الذي يوصله إلى أصحاب الشأن من الشرطة أو أجهزة الأمن. يعمل في الخفاء، ويختار الابتعاد عن الضوء، حيث يتاح له نصب الكمائن، ونسج الشراك، ليصطاد أولئك الذين يمكن أن تزلّ ألسنتهم، أو يستبد بهم الغضب، فينزلقون إلى مرتبة احتجاج محدود، وشبه مغلق، كما يظنون، في وجود من لا يعلمون أنه سيشي بهم.

وقد ظلّ المخبر السري سرياً في الأدب، وفي الحياة الواقعية، لأن انكشافه يعني انتزاع صفاته، وسلبه سلاحه الوحيد والأجر المقرر. إذ حين ينكشف، يصبح خارج الخدمة، ويفتقر إلى صلاحية العمل المناط به.

وفي الغالب فإن الأدب اضطر إلى أن يقدّم شخصية شبه مسطّحة، تخلو من الأبعاد الضرورية لتكوين الشخصية الروائية. ولعل السبب كامن في أمرين: الأول هو الموقف الأخلاقي من طبيعة عمل المخبر الذي يودي بحياة الآلاف من الأبرياء غالباً، وهو عمل يستدعي الاحتقار، واللعنة. والثاني هو خفاء الشخصية ذاتها، وغموض وجودها ككائن من لحم ودم يمكن الاستعانة به من أجل بناء الشخصية في الرواية.

يقتفي المخبر المتطوّع أثر المخبر السرّي في أمر واحد فقط، هو الرسالة، والمرسل إليه، ويفترق عنه في جميع الصفات الأخرى. فمضمون شغله ينصبّ على التواصل مع أجهزة الشرطة، أو الأمن، لإعلامها بالأحداث "الخطيرة" التي تمس الأمن عامة.

غير أنه يقدّم المعلومة مجاناً، وبذلك تنتفي عنه سمة المرتزق أو المأجور، وهو يجاهر بوجوده، ويتباهى بتدخله الحيوي في الحياة العامة، كأن انخراطه المستجدّ في هذا الشأن نوع من استعادة لذات مهمّشة، ووجود عرضي عابر سابق، لا في الشؤون السياسية وحدها وحسب، بل في شؤون الحياة كافة.

يأتي المخبر المتطوع في زمن الثورة ليعلن مجموعة من المسوغات الأخلاقية والسياسية للقيام بهذا العمل. فهو المواطن الباحث عن الأمان، في حين أن الثورة سلبت منه هذا الأمان الذي كان "ينعم فيه"، أو أنه يعلن أن الثورة ضد الوطن، وأن حضور الخطر الوطني يستلزم القيام بأي إجراء من أجل حمايته من أعدائه.

هذا هو الخطاب المعلن لرفع الحقارة عن الوشاية. وبه يمكن أن تتوفر لدى الواشي المتطوع راحة البال التي تحميه من اتهام السيّاب الذي وصف المخبر بأنه: صبّاغ أحذية الغزاة وبائع الدم والضمير؛ كما يمكنها أن تزيد من قدراته ذات الطبيعة التفتيشية. وقد أظهرت هذه اليقينيات أن لدى المتطوعين من الوشاة قدراً كبيراً من الشبهات بمن حولهم، شبهات مستمدة من أي مخالفة واقعية أو متخيلة، يعود تفسير طبيعتها إلى حساباتهم وشكوكهم بما يحدث.

مَن سيستعين بخبرات المخبر المأجور في ما بعد، إذا ما بات آخرون ينفذّونه بلا ثمن؟ وما الذي ستقوله الرواية المقبلة عن هذه الحكاية؟

المساهمون