نضال الأشقر: من أنفاق غزّة سيأتي الضوء

28 يوليو 2024
نضال الأشقر في بيروت، 16 شباط/ فبراير 2022 (Getty)
+ الخط -

في خضمّ هذه الفوضى العارمة، ووسط هذا الدمار والقتل والإبادة الذي يحيط بنا من كلّ صوب، تُصرّ الفنّانة والمُخرجة المسرحية اللبنانية نضال الأشقر (1934) على أنّ الحُلم والأمل لا يموتان. ربّما كان الأملُ هو ما دفعها في ستّينيات القرن الماضي، مع مجموعة من المسرحيّين اللبنانيين والعرب، إلى تأسيس "محترف بيروت للمسرح"، في محاولة لتأسيس مسرح عربي أصيل وجديد من حيث الشكل والمضمون، يحمل هواجس الإنسان العربي وأحلامه وقضاياه وهمومه.

وقد يكون ذلك الأمل هو ما دفعها، أيضاً، في التسعينيات، إلى تأسيس "مسرح المدينة"، الذي تحوّل فيما بعد إلى "جمعية مسرح المدينة للثقافة والفنون"، بهدف مدّ جسور تواصل بين الفنون المشهدية والحياة اليومية بتركيباتها المعقّدة، وتحريك عجلة الثقافة والفنون في بيروت خصوصاً، وباقي المدن العربية، إضافة إلى دعم الشباب الذي ما زال يتعرّض لحروب وأزمات داخلية متعدّدة حرمته من التعرّف على أي من الفنون الأصيلة في لبنان والعالم العربي.

مع اقتراب الذكرى الثلاثين لتأسيسها "مسرح المدينة" (1994)، لا تزال الأشقر تُصرّ على دور المسرح في ترسيخ الديمقراطية في زمن الدكتاتوريات، وبعث الضوء من الأنفاق في زمن الإبادة، وتأكيد حضور جسد المرأة وحرّيتها في زمن الذكورية المفرطة. المسرح، عندها، كان ولا يزال صميم الوجود بالمعنى السياسي والاجتماعي للكلمة. والمبدعون، في كل المجالات، هُم الأكثر قدرة على زلزلة المسلّمات القائمة، ورجّ البِرك الراكدة في المجتمعات العربية.

توقّفت "العربي الجديد" مع الفنّانة والمسرحية اللبنانية، وسط انشغالها بالتحضير لفعاليات الذكرى الثلاثين لـ"مسرح المدينة"، التي ستبدأ في أيلول/ سبتمبر المُقبل، وكان معها هذا الحوار حول وضع المسرح العربي في ظلّ المتغيّرات التي يعيشها عالمنا العربي، وأبرز التحدّيات والمشكلات التي يواجهها.


■ هذا المسرح العالمي الكبير الذي نشهده في الهواء الطلق، كيف كنتِ ستُخرجين نصّه؟

هذا المسرح العربي الكبير ليس بحاجة إلى نصّ غير "نكون أو لا نكون. تلك هي المسألة". هذا زمن الملاحم التاريخية الكبرى، ووحده المسرح الملحمي قادرٌ اليوم على تقديم أجوبة على ما يجري في فلسطين. وكما بحث غلغامش عن زهرة الخلود وعثر عليها؛ لا كي تكون له وحده فحسب، بل كي تكون لشعبه أيضاً، علينا جميعاً أن نعثر على زهرة البقاء ووردة الشهادة من أجل فلسطين.

نصّ المسرحية تكتبه يومياً الأجساد المعذّبة والمحروقة والمبتورة والمشوّهة، وأصوات القتل والدمار والآلام والأنين تمتزج مع أصوات آلات الموت والإبادة. من أين لشاعر أو لكاتب أو للغة أن يعبّر عن هذه المشاعر، وعن تلك العذابات، وعن ينابيع الدموع التي تجري دماً على أرض غزّة؟ الكلمة الآن للملاحم التي يكتبها الشعب الفلسطيني الباسل بحياته ونضاله من أجل البقاء.

ظلّ المسرح العربي شكلاً من الزخرفة الثقافية الهامشية

■ برأيك، ما هو دور العرب في هذه المسرحية؟

أمّا العرب، فهُم يعيشون في ملحمة لم يكتبوا نصّها، ولم يشاركوا في تمثيلها، ولا حتّى في إخراجها. وإن كان ثمّة من مشاركة، فهي تقتصر على أدوار ثانوية، حتّى إنّهم لم يشاركوا في كتابة تاريخنا، ولا حاضرنا، ومن المؤكّد أنّهم لن يكتبوا مستقبلنا.


■ وماذا عن مسرح الموت الفلسطيني في غزّة؟

يعيد مسرح الموت الفلسطيني كلَّ المؤدّين إلى حقيقتهم: الإسرائيليون إلى وحشيتهم الحقيقية، والفلسطينيون إلى صفاء الشهادة.


■ من أين لمسرح عربي يتحرّك في الظلمة، إذن، أن يكتب الضوء؟

قد تكون هذه المرّة الأُولى في التاريخ التي يخرج فيها الضوء من الظلمة، من الأنفاق والسراديب. من أنفاق وسراديب غزّة، تحديداً، سوف يأتي الخلاص من هذه الظلمة التي نعيشها منذ عشرات السنين، ولن ينقذنا إلّا الضوء والأمل المنبعثان من هناك. 


■ هل تواكب الحركة المسرحية في العالم العربي ما يحدث من تحوّلات اجتماعية وثقافية وسياسية عربية؟

مطلقاً. كيف يمكن أن تواكب الحركة المسرحية العربية إبادةً جماعية وحرباً مُدمِّرة وأحداثاً سياسية واجتماعية، في وقت نفتقر فيه إلى حرّية التعبير، وحرّية الجسد، وحرّية الرأي؟ كيف يمكن أن تواكب الحركة المسرحية العربية مكاناً عربياً شاسعاً يضيق بجسد الإنسان العربي، وتضيق معه المساحة إلى حدّ الاختناق؟ 

من كواليس مسرحية قدّام باب السفارة الليل كان طويل لنضال الأشقر، 2008
من كواليس مسرحية "قدّام باب السفارة الليل كان طويل" لنضال الأشقر، 2008

■ يلاحَظ وجود تراجع في حركة المسرح. ما أسباب هذا التراجع برأيك؟

لم يكن المسرح متقدِّماً حتى نقول الآن إنّه تراجَع؛ فمنذ مارون النقّاش (1817 - 1855) أخذنا الأشكال المسرحية من الغرب، ولم نستطع أن نأخذ الوقت الكافي كي نفتّش عن عباراتنا ولغتنا وأدواتنا وأشكالنا المسرحية الخاصّة بنا. لطالما كان هناك تقصيرٌ، لأنّ العمل والتفتيش عن مسرح عربي له شكل جديد يتطلّب وقتاً ودعماً ماديّاً لم نتمكّن يوماً من أن نحصل عليه أو نتوصّل إليه. أمّا في ما يخصّ المسرح المدعوم في الدول العربية، فلم يتسنّ لأحد أن يقوم بالبحث المعمّق، وهكذا ظلَّ المسرح شكلاً من أشكال الزخرفة الثقافية الهامشية في معظم البلدان العربية، باستثناء بعضها، مثل المسرح التونسي والسوري واللبناني. وأمّا المغرب العربي، فقد تمكّن المخرج المسرحي الراحل الطيّب الصديقي، في بعض الأحيان، وفي أوقات محدّدة، من أن يلعب دوراً رئيسياً في إخراج المسرح المغربي من الطابع الغربي إلى النبع العربي.

أمّا نحن، في "محترف بيروت للمسرح"، فقد حاولنا ذلك، ولكنّنا لم نستطع أن نُحوّل فرقتنا المسرحية إلى محترف حقيقي للبحث المعمّق عن أشكال المسرح العربي القديم، نظراً إلى عدم وجود الإمكانات. هكذا لم يكن ممكناً غير الساحة والحكواتي وخيال الظلّ أو الدمى. وقبل ذلك كلّه، لا بدّ من القول إنّه لا يمكن أن يكون الرقص والغناء الوسيلتَين الوحيدتين، فضلاً عن الحديث عن شعراء البلاط.

منذ بدايتنا، آمنّا بالطقوس الدينية كها بوصفها خميرة أساسية لمسرحنا، بدءاً من الشعائر الشيعية مثل عاشوراء، مروراً بالمولد ودرب الصليب وشعر الميلاد وزياح مريم. إضافة إلى ذلك، أن عادات الموت والدفن وتحضير الموتى كانت أساساً لنا، لكنّنا لم نتعمّق أكثر في دراسة فضاءات أُخرى ممكنة كي نَخرج من المسرح الإيطالي إلى فضاءات عربية رحبة. أظنّ أنها كانت بداية جيّدة، ولكنّها غير كافية لإعطاء المسرح العربي شكلاً جديداً.

ليس المسرح تجسيد النصّ على الخشبة فحسب، بل الخروج عنه

■ قرأنا مؤخّراً في الصحافة العربية خبراً عن منع مسرحية "آخر البحر" للفاضل الجعايبي في "مهرجان الحمامات الدولي" بتونس؟ أيّة رقابة تمارَس على المسرح العربي اليوم؟

الرقابة العربية موجودة دائماً ومنذ البدايات، ولم يتغيّر أيّ شيء، وهي، في أغلب الحالات، رقابة سخيفة، تقوم بأعمال طفولية ليس أكثر. وما يخص مسرحية "آخر البحر" للمخرج فاضل الجعايبي، في الحقيقة لا أعرف لماذا مُنعت، ولكنّه قيل إنّ فيها "كلمات تخدش الحياء". في جميع الأحوال، كلّ ما أستطيع قوله هو أنّ الجعايبي من أبرز المخرجين في العالم العربي، ومنعُ مسرحيته، مهما كانت أسباب ذلك، يعني عدم احترام الفنّانين والمسرحيّين وأعمالهم. أقترح على مراقبي المسرح العربي أن يقرؤوا شكسبير وموليير وبريخت كي يتعلّموا أنّ لكلّ حالة لغة مناسبة لها.


■ من خلال تجربتك، هل تعتقدين بوجود خوف سلطوي من دور المسرح قد يُفسّر الرقابة وعدم دعمه بالمال؟

على العكس، المسرح العربي عامّةً مدعوم من معظم البلدان والأنظمة العربية، لأنّ هناك رقابة شديدة عليه، ولهذا السبب تحديداً، يدعمونه. ليس لدى هؤلاء خوف من أيّ موضوع طبعاً. الخوف الرئيسي هو خوف سلطوي من الكلمة الحرّة عامة. في معظم البلدان العربية ثمّة رقابة صارمة على النصّ المسرحي، وفي حال تمّت المراقبة لا مانع من دعم المسرحيات. 
مهمّة الممثل على المسرح هي الخروج عن ذلك النصّ المراقَب والارتجال. هذا تحديداً ما حدث معنا في مسرحية "مجدلول"، حيث سمحت الرقابة بالنصّ، ولكنها بعد ذلك منعت المسرحية. المسرح ليس النصّ فحسب، بل تجسيد النصّ والخروج عنه.


■ المسرح هوية تعني من بين أشياء عديدة الجسد وتعبيراته، المرأة وهمومها... هل استطاعت التجربة المسرحية العربية أن تُعبّر عن هموم الجسد الأنثوي العربي وقضاياه؟

لا شك أنّ هناك بعض التجارب الهامّة جدّاً، مثل تجربة سعد الله ونوس في مسرحية "طقوس الإشارات والتحولات"، والتي عالج فيها الكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية. باعتقادي فإنّ أبرز ما تُعالجه هذه المسرحية هي شخصية مؤمنة؛ زوجة المفتي، التي ترفض حياتها مع زوجها، وتذهب إلى السوق العمومي. لقد دفع ونوس بشخصيّته من هاوية إلى أُخرى أصعب وأقسى من أجل الحديث عن حرية المرأة، وحرية الجسد، وأهمّية ذلك في مجتمعاتنا العربية.

هناك أيضاً مسرحيته "مُنمنمات تاريخية"؛ وهي مسرحية سياسية بامتياز، تتناول وصول تيمور لنك إلى بلاد الشام. ثمّة مشهد في المسرحية في غاية الأهمية، يتحدّث عن أخذ فتاة عنوة وبعنف، وقد تمّ وصف الحادثة بقساوة جسدية بالغة، وكان ذلك فريداً من نوعه في المسرح العربي. تحضرني أيضاً تجربة عصام محفوظ مع "محترف بيروت للمسرح"، والذي يُعدّ من أبرز مؤسّسي الحركة المسرحية الحديثة في لبنان. أقمنا معه نوعاً من حقل التجارب وورشات الكتابة المسرحية، حيث كنّا نكتب التتابع الدرامي للمسرحيات، وبهذه الطريقة كتب محفوظ "كارت بلانش" عن بيروت، بوصفه سوقاً عمومياً والنساء فيه لمن يريدهن، أمّا رجالها فكانوا رجالات السياسة ومنهم القوّادون والفاسدون. هكذا كُتبت هذه المسرحية مع الممثّلين على غرار الكثير غيرها في المحترف.

ومن الأعمال المسرحية التي أخرجتها وتناولت المرأة العربية مسرحية "ثلاث نسوان طوال"، عن نص للأميركي إدوارد ألبي، حيث تناول العمل جسد المرأة العربية التي تُحضَّر من العائلة كي "تُباع " بأعلى ثمن، لأنّها تتقن فنّ التبرّج وتقديم نفسها على آخر طراز. ومن المسرحيات الأخرى التي عالجت موضوع المرأة العربية أيضاً مسرحية "تصطفل ميريل ستريب" للكاتب رشيد الضعيف، والتي تناول فيها موضوع عذرية المرأة العربية وأهمّية المحافظة على هذه العذرية مهما كان الثمن. لقيت المسرحية صدىً كبيراً في العالم العربي وفي فرنسا أيضاً.


■ ماذا بقي من حُلم "مسرح المدينة" إن كانت المدينة أو المدن نفسها لم تعُد موجودة؟

رغم الخراب والدمار، رغم الحروب والقتل، رغم الإبادة، لا يزال الحُلم موجوداً، لأنّ المدينة لا تزال موجودة: بيروت وغزّة نموذجان عن استمرار المدينة رغم كلّ ما تتعرّضان له من تدمير وعدوان. حين أنزل إلى بيروت وأرى المَعارض والمطاعم وصالات المسرح والسينما والشعر وغيرها من فعاليات الأدب والثقافة، أقول إنّ هذه المدينة لا تموت. كذلك الأمر في غزّة: بيروت وغزّة لا تموتان، ولست أقول شعراً.

المساهمون