29 سبتمبر 2017
محمود درويش في كردستان
أخذني محمود درويش، بعيد رحيله بشهور، إلى كردستان العراق. في الفيلم الوثائقي الذي صوّرته عام 2009، وكان فيلماً شخصياً لا لجوء فيه لمقابلات عن درويش، حيث يقتصر على الشعر، قراءات بصوت الشاعر وبأصوات شعراء من جنسيات مختلفة يقرؤون شعره مترجماً إلى لغاتهم. أحببت أن يكون للشاعر الكردي، شيركو بيكه س، الراحل قبل سنوات، حضور في الفيلم، وأنا أعرف أنهما، درويش وهو، أحبا شعر كل منهما، ولم يلتقيا البتة. نشر درويش في مجلته "الكرمل" شعراً مترجماً لشيركو، وترجم شيركو شعراً لدرويش، ونشره في مجلات أدبية كردية. وكان شيركو أهم شاعر كردي معاصر، كما كان درويش أهم شاعر فلسطيني، ومن أهم شعراء العربية في العصر الحديث.
سافرت من بيروت بالطائرة مع مديرة تصوير فيلمي "كما قال الشاعر"، اللبنانية جوسلين أبي جبرايل، إلى أربيل، بعد اتصالات مع شيركو بيكه س. استقبلنا، في مطار أربيل، موظفان من المؤسسة الثقافية التي كان يديرها الشاعر الكردي، وانطلقنا في الليل عبر الجبال في ظروف مناخية قاسية إلى السليمانية، حيث يعيش شيركو الذي كنت أعرفه من قبل، وأجريت معه مقابلة في الثمانينات في دمشق.
عرفت، في كردستان، لأول مرة أن لمحمود درويش قصيدة عنوانها "كردستان"، نظَمها في 1963، وكان في الثانية والعشرين عاماً. لم أقرأ القصيدة قبل أن أذهب إلى كردستان، لكني أدركت حضور درويش في ضمائر الكرد شاعراً كتب عنهم، وأعلن حبه لهم، وحزنه لما أصابهم عبر الأزمنة. ترجم الأكراد القصيدة إلى اللغة الكردية، ونشروها في أكثر من مجلة، لا بل وزعوها مطبوعةً على ورق الستانسل في كل مواقع وجودهم، حتى في القواعد العسكرية للبشمركة، كما قال لي شيركو بيكه س. كان الأكراد فخورين بقصيدة الشاعر الكبير، على الرغم من أنها ليست في مستوى تجربة ناظِمها الشعرية في الزمن اللاحق، فقد كان درويش في تلك المرحلة في بداية تجربته الشعرية، كما أنك تستطيع أن تتلمس في القصيدة تأثير تربيته في الحزب الشيوعي الإسرائيلي والنهج الاشتراكي في صناعة الأدب. وعلى الرغم من هذا كله، اعتبر الأكراد الذين أنكرهم، وأنكر قضيتهم، الشعراء القوميون العرب، والقوميون السوريون، والشيوعيون المتحالفون في الجبهات الوطنية مع الأنظمة في العراق وغيره، أن لهذه القصيدة ما يشبه الغوث والغيث لأرواحهم التي أعياها نكران إخوانهم في المحيط العربي عدالة قضيتهم.
كان الأكراد الذين التقيتهم في السليمانية، ثم في حلبجة، مدينة الموت البعثي التي زرناها، عندما يعرفون أنني فلسطيني، وأصور فيلماً عن محمود درويش، يظهرون محبتهم البريئة لنا، ويعتبون عتاباً رقيقاً، لأن قصيدة درويش لم يتضمنها أي من دواوينه. كان يتساءل الكردي عن السبب، وكنت أجيبه، إن درويش كتب قصيدته الأجمل "ليس للكردي إلا الريح"، ألا يكفي هذا؟.
في حلبجة التي محق نظام صدام حسين أهلها بالسلاح الكيميائي، كما في المقهى القروي الفقير الذي توقفنا عنده، وسط الجبال المهيبة بسحرها وأسرارها، التقينا قرويين أكراداً بثيابهم التقليدية وفضولهم القروي، عندما يرون أناساً لا ينتمون إلى المكان، وبمجرد إلقاء التحية، وطلب الشاي، يسألنا صاحب المقهى عن هويتنا، من دون أن يحمل أي ريبةٍ، فقد صار الأكراد أكثر ثقةً بمكانهم وحضورهم فيه، بعد رحيل "البعث" من البلاد. وعندما نفصح عن هويتنا، وقبل أن ننطق بأي كلمة أخرى، يقول لنا صاحب المقهى: آه، كتب محمود درويش قصيدة عن كردستان، ولكننا للأسف لم نجدها في ديوانه المنشور في الشام.. ويروح يردّد: الكرد يقتربون من نار الحقيقة، ثم يحترقون مثل فراشة الشعراء.
سافرت من بيروت بالطائرة مع مديرة تصوير فيلمي "كما قال الشاعر"، اللبنانية جوسلين أبي جبرايل، إلى أربيل، بعد اتصالات مع شيركو بيكه س. استقبلنا، في مطار أربيل، موظفان من المؤسسة الثقافية التي كان يديرها الشاعر الكردي، وانطلقنا في الليل عبر الجبال في ظروف مناخية قاسية إلى السليمانية، حيث يعيش شيركو الذي كنت أعرفه من قبل، وأجريت معه مقابلة في الثمانينات في دمشق.
عرفت، في كردستان، لأول مرة أن لمحمود درويش قصيدة عنوانها "كردستان"، نظَمها في 1963، وكان في الثانية والعشرين عاماً. لم أقرأ القصيدة قبل أن أذهب إلى كردستان، لكني أدركت حضور درويش في ضمائر الكرد شاعراً كتب عنهم، وأعلن حبه لهم، وحزنه لما أصابهم عبر الأزمنة. ترجم الأكراد القصيدة إلى اللغة الكردية، ونشروها في أكثر من مجلة، لا بل وزعوها مطبوعةً على ورق الستانسل في كل مواقع وجودهم، حتى في القواعد العسكرية للبشمركة، كما قال لي شيركو بيكه س. كان الأكراد فخورين بقصيدة الشاعر الكبير، على الرغم من أنها ليست في مستوى تجربة ناظِمها الشعرية في الزمن اللاحق، فقد كان درويش في تلك المرحلة في بداية تجربته الشعرية، كما أنك تستطيع أن تتلمس في القصيدة تأثير تربيته في الحزب الشيوعي الإسرائيلي والنهج الاشتراكي في صناعة الأدب. وعلى الرغم من هذا كله، اعتبر الأكراد الذين أنكرهم، وأنكر قضيتهم، الشعراء القوميون العرب، والقوميون السوريون، والشيوعيون المتحالفون في الجبهات الوطنية مع الأنظمة في العراق وغيره، أن لهذه القصيدة ما يشبه الغوث والغيث لأرواحهم التي أعياها نكران إخوانهم في المحيط العربي عدالة قضيتهم.
كان الأكراد الذين التقيتهم في السليمانية، ثم في حلبجة، مدينة الموت البعثي التي زرناها، عندما يعرفون أنني فلسطيني، وأصور فيلماً عن محمود درويش، يظهرون محبتهم البريئة لنا، ويعتبون عتاباً رقيقاً، لأن قصيدة درويش لم يتضمنها أي من دواوينه. كان يتساءل الكردي عن السبب، وكنت أجيبه، إن درويش كتب قصيدته الأجمل "ليس للكردي إلا الريح"، ألا يكفي هذا؟.
في حلبجة التي محق نظام صدام حسين أهلها بالسلاح الكيميائي، كما في المقهى القروي الفقير الذي توقفنا عنده، وسط الجبال المهيبة بسحرها وأسرارها، التقينا قرويين أكراداً بثيابهم التقليدية وفضولهم القروي، عندما يرون أناساً لا ينتمون إلى المكان، وبمجرد إلقاء التحية، وطلب الشاي، يسألنا صاحب المقهى عن هويتنا، من دون أن يحمل أي ريبةٍ، فقد صار الأكراد أكثر ثقةً بمكانهم وحضورهم فيه، بعد رحيل "البعث" من البلاد. وعندما نفصح عن هويتنا، وقبل أن ننطق بأي كلمة أخرى، يقول لنا صاحب المقهى: آه، كتب محمود درويش قصيدة عن كردستان، ولكننا للأسف لم نجدها في ديوانه المنشور في الشام.. ويروح يردّد: الكرد يقتربون من نار الحقيقة، ثم يحترقون مثل فراشة الشعراء.