تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، السادس عشر من حزيران/ يونيو ذكرى ميلاد القاص والكاتب المصري محمود تيمور (1894- 1973).
نشأ الكاتب المصري محمود تيمور (1894 – 1973)، الذي تحلّ ذكرى ميلاده اليوم الثلاثاء، في بيت أخلص أهله للأدب والعلم، وحظوا بمكانة مرموقة في دولة محمد علي باشا، التي احتضنت عائلات أتت من مناطق عديدة تحت الحكم العثماني لتؤسس بمعارفها أركان الدولة الحديثة، كما عاش مع المرض منذ سنّ باكرة فلازمه الألم طوال حياته وتسّرب إلى كتاباته.
ورث صاحب "قال الراوي" عن والده أحمد تيمور باشا شغفه باللغة والأدب، كدأب شقيقه محمد الذي كتب مسرحيات ذات مضامين اجتماعية ورحل في الثلاثين من عمره، ما دفع الأب إلى الدخول في عزلته والابتعاد عن الكتابة، وكذلك كان مصير محمود الذي انزوى للحزن واليأس.
أتت تلك الفاجعة بعد إصابته بالتيفوئيد وانقطاعه عن المدرسة الزراعية العليا، فلم يُتمّ تعليمه وقضى شهوراً في العلاج في مصر والخارج، ولم يستعد عافيته وإقباله على الحياة إلا بعد سنوات عدّة، ليبدأ مشروعه القصصي الذي مزج فيه عناصر استمّدها من التراث العربي، بذائقته واطلاعه الواسعين على السرد الأوروبي، والفرنسي منه خاصة.
مثّلت أعمال مصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران وأدباء المهجر قراءاته الأولى، في مرحلة نزع فيها العديد من الكتّاب المصريين والعرب نحو الرومانسية، تحذوهم آمال كبرى بالتحديث والتحرّر الاجتماعي اللذين سادا في أجواء ما بين الحربين العالميتين.
نهل محمود من مكتبة والده "الخزانة التيمورية" واطّلع أمّهات كتب السرد العربي، ومنها مقامات الهمذاني والحريري وألف ليلة وليلة مستفيداً، كما يروي في مقالة نشرها في مجلة "القافلة"، أواخر حياته، من متعة القص والخيال الواسع وبناء الشخصيات، لكن نقطة التحوّل حدثت مع اطلاعه على قصص الكاتب الفرنسي غي موباسان، والذي استند إليه بشكل أساسي في كتابة الأقصوصة التي اشتهر بها، كما تأثّر بالأدب الروسي، خاصة قصص تشيخوف وتورغنيف.
اختط صاحب "نداء المجهول" أسلوبه الخاص في الكتابة القصصية التي تتكئ على تصوير دواخل الإنسان ومشاعره التي تخفي وراءها فواجعه وإحساسه بالرثاء تجاه وجوده، حيث تتفاعل شخصياته مع العالم بقلق وحيرة ومحاولة لفهم متغيراته التي لا تخلو من المفارقات، مركّزاً في قصّه على تحليل سلوك الفرد وتتبع الصراع النفسي والاجتماعي الذي يعيشه.
لم يُحسم الجدل إلى اليوم حول أول قصة عربية، ولكن كثيراً من النقّاد والباحثين يشيرون إلى النص الذي كتبه تيمور بعنوان "في القطار" باعتباره القصة الأولى، والتي نشرها في مجلة "السفور" عام 1917، وتدور أحداثها على مدى ساعات في أحد القطارات الذي تستقلّها ستّ شخصيات تعكس أزمات المجتمع كما تراها كل واحدة منها.
رغم أن القصة القصيرة في العالم العربي لم تتطوّر إلا في خمسينيات القرن الماضي حين استطاعت أن تنطلق من الذات إلى العالم، وليس بالعكس، في بنية فنية ناضجة، إلا أن محمود تيمور قدّم مع آخرين محاولات سردية جادة، متخلّصاً إلى حد كبير من ثقل البلاغة والقيود اللغوية من حشو وإطالة، واستطاع أن يضع لبنة أولى في فن القصة.