في بداياته، وحين قرّر دخول عالم الغناء صبياً، غيّر محمد عبد الوهاب (1902 - 1991)، الذي حلّت ذكرى ميلاده مؤخراً، اسمه إلى محمد البغدادي، فقد كان عالم الطرب والفن مرتبطاً بشرب الكحول وتقديم أغاني الخلاعة، الأمر الذي لن تقبله عائلته، والتي سيهرب منها عبد الوهاب المراهق في ما بعد للعمل في سيرك دمنهور.
سيمرّ وقت قبل أن تتم المصالحة مع عائلته على يد وساطات كان من بينها الشاعر أحمد شوقي الذي ستجمعه به صداقة العمر، ويصير مفتاح الوصول الجماهيري للفنان المبتدئ بأغنية من كلمات أمير الشعراء بعنوان "شبكت قلبي يا عيني". هذه التفاصيل هي بعض مما ورد في كتاب محمود عوض "محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد" (مكتبة الأسرة)، وقدّم فيه حقائق حول الموسيقار من خلال الحوار الذي أجراه معه الكاتب.
في الفصول الأولى، يستعرض الكاتب ظروف مقابلته بعبد الوهاب وكيف استقبله في منزله و السيدة نهلة القدسي زوجته، ويتطرق إلى الخلفية الزمنية لولادة عبد الوهاب ونشأته في حارة الشعراني في باب الشعرية، ولعل أبرز الحوادث التي رواها هي التي تتعلق بمرض عبد الوهاب في سن السنتين ورأي الطبيب بوفاته القريبة والمؤكدة، ثم مقاومته لهذا المرض وتخطيه له.
يذكر عوض تعلم الموسيقار العود خلال سنة على يد القصبجي و دراسة لم يستكملها للهارموني والأوركسترا و أثر ذلك في موسيقاه، حيث لحن مونلوج "في الليل لما خلي" والذي مثّل صراعاً بين الموسيقى الشرقية القديمة وبين توليف الآلات الأوروبية في توزيعها. هذا إلى جانب ريادة عبد الوهاب في مجالات مثل تقديم أغنية بالفصحى مثل "ياجارة الوادي"، إلى جانب تقديمه مفهوماً جديداً للكورس في "القمح"، وحوار الآلات في "مجنون ليلى" وإدخال الهارمونية أي علم توافق الأصوات في "أنا و العذاب و هواك".
ما يميز الموسيقى المصرية في رأي الموسيقار هو النهايات الجميلة للجمل، و أرجع هذا إلى أن الشعب المصري شعب ينصت للقرآن و أيضا إلى جماليات النطق المصري، بينما ما يميز الموسيقى الشامية أنها راقصة، و العراقية بالأصوات الطويلة الحزينة و تستقر على المقام الواحد كثيراً، و غناء شبه الجزيرة بأنه وسيلة لعزف العود، و السودان بالإيقاعات والقفز بين المقامات في حين يفضل المصريون المقامات المتجاورة.
يمر عوض أيضاً بالمقابلة التي حدثت بين محمد المجهول آنذاك وسيد درويش الأسطوري وعلاقته بألحانه، ثم عمله مع منيرة المهدية، وعَرْض بديع خيري عليه السفر في جولة مُنيت بالفشل الذريع، وترك عبد الوهاب على أثرها فرقة الريحاني ليبدأ دراسته في معهد الموسيقى الشرقي.
يفرد المؤلف فصلاً عن حياة عبد الوهاب الشخصية وزيجاته، حيث بدأ بزواجه السري من سيدة تكبره بعشرين عاماً والذي استمر عشرة أعوام وانتهى بسبب الغيرة، مروراً بقصته مع سيدة لبنانية زوجة وزير لبناني اتفقا على الزواج بعد وفاة الأخير، ومعارضة الكنيسة اللبنانية هذا الزواج، ثم زواجه من إقبال نصّار في سرية لم تنكشف إلا حينما أصبح أباً في زواج دام 12 عاماً، تلاه زواجه بنهلة القدسي بعد طلاقها من السفير الأردني في أميركا.
يتطرّق الكاتب أيضاً في فصل لعله الأهم إلى آراء عبد الوهاب في تاريخ الموسيقى العربية ومستقبلها؛ وفي هذا يورد آراء الموسيقار المصري في أن عبده الحامولي هو خالق موسيقى الطبقة المتوسطة، وسلامة حجازي هو رائد الغناء القصصي، بينما أنشأ سيد درويش الغناء المسرحي الشعبي، وفي شعرائه الذين تعلم منهم الاندماج في عملية الخلق مثل رامي، وكيف تكون مثقفاً عصرياً من دون الانفصال عن ذوق جمهورك مثل علي محمود طه.
وعن مستقبل الأغنية العربية، كان رأيه أن المتاح لها هو أن تكون أغنية هارمونية ذات جمل قليلة وقوالب سهلة واضحة، وإمكانية خضوعها للمقاييس العلمية في الموسيقى والتوزيع.
وعن نوعَي الفنانين بالنسبة له، يقول إن هناك فنانا عبّر عن عصره وفنانا سابقا لعصره مثل سيد درويش، ويصنّف نفسه من الفئة الأولى. أما عن تطوّر موسيقانا العربية، فقد أكد عبد الوهاب أنه تطوّر كبير لكنه ناقص، لحدوث حالة طلاق بين الموهبة والمعرفة، واللحن الواحد يخلط بين القديم والحديث وأنواع الموسيقى المختلفة بغير ملاءمة لذوق الجماهير المحلي، كما أن الهدف من تدريس الموسيقى للطلاب غير واضح. يختتم المحاور بسؤال مهم لعبد الوهاب هو "لماذا تلحن؟" ليرد الموسيقار لأنني لا أحس برغبة في أي شيء آخر.