27 أكتوبر 2024
متى وسام الشرف الفرنسي للسيسي؟
عند دخول الطائرة المصرية الرئاسية التي حملت الرئيس عبد الفتاح السيسي الأجواء الفرنسية، رافقتها طائرات حربية من طراز رافال، التي طالما فشلت فرنسا في إقناع أغلب جيوش العالم بشرائها. حركة استعراضية استثنائية للترحيب برئيسٍ زائرٍ، ولتبيان أهمية الضيف، ثقيل الاعتبار لدى الدولة المستضيفة. ويبدو أن باريس الحرية قد استوعبت ظاهرة "جنون العظمة" لدى رؤساء العالم الثالث، والتي تصيبهم حتى قبل وصولهم إلى سدة الرئاسة، واستحواذهم على الحياة السياسية عبر الانقلابات العسكرية غالباً، كما حال الجنرال السيسي، فبادرت إلى إرضاء هذه الذات المتعطّشة للاعتبار/ الاعتراف والتقدير، ولو كانت على ثقة تامة بأنه كاذب، وربما ينقلب على صاحبه/ ضحيته في أية فرصة.
وصل الرئيس الذي استقبلته فرنسا العدالة إلى الحكم عبر انقلاب عسكري، حسبه بعض "السُذّج" إنقاذاً محموداً من "براثن" جماعة الإخوان المسلمين. هذه الجماعة الدعوية التي وصل ممثلوها إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع بحساب عددي، لكنهم سرعان ما أعملوا أدواتهم البعيدة عن السياسة، واعتبروا أن الشرعية تُستمّد فقط من هذه الصناديق بمفهومها الكمي/ من دون الأخذ بالاعتبار تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي الراهن. وحيث ابتعدوا عن مفهوم التشاركية اللازم، لإطلاق بناء سياسي جديد في دولةٍ نخرتها عقود استبداد وفساد متتالية. أُضيف إلى ذلك كله الخلط الصارخ بين السياسي والدعوي، ما حملهم إلى السعي إلى
إطلاق مسار عملية "أخونة" الدولة ومؤسساتها. ترافق الانقلاب العسكري، إذاً، مع ممارسات أمنية تعسفية بحق كل الجماعات المدنية، وضد حرية التعبير. ودفع المجتمع المدني المصري، بمكوناته المتعدّدة، وخصوصا اليساري والديمقراطي منها، ثمناً باهظاً لما ادّعت السلطة بأنها إجراءات لمحاربة الإرهاب والتطرّف. كما تميّزت في ظلّ هذا الاستبداد المتجدّد مؤسسة القضاء بإنفاذ عدالة انتقامية وانتقائية وجماعية (كادت أن تدخل كتاب غينيس للأرقام القياسية) بحق الخصوم السياسيين. مؤسسة القضاء تلك، والتي ما فتئت تحتفظ بنسبة معقولة من الاستقلالية طوال عقود سابقة، على الرغم من الضعف البنيوي للفصل بين السلطات في مصر منذ منتصف القرن العشرين، حازت، منذ الانقلاب، على مرتبة دنيا للغاية في إحقاق العدل وإنصاف المظلومين.
ولسخرية القدر، تحدثت الأخبار عن نية الحكومة المصرية شراء عدد لا بأس به من طائرات الرافال، غير التنافسية وعالية الثمن، في حين يعاني الاقتصاد المصري من أزمة هيكلية، تضعه في خانة الاقتصادات المنهارة، أو في طور الانهيار بلغة الأرقام وبلغة الحياة اليومية للشعب المصري. وفي هذه الصفقة، كما سواها من عمليات بيع الخدمات أو الصناعات أو الخبرات، يبدو أن رئيس "الأثرياء" في باريس، كما تصفه الصحف الفرنسية الجادة، يضع نصب عينيه فقط الترويج الفعّال للأسواق الفرنسية، متخليّاً عن أية موانع أو حدود ربما تفرضها بعض التصرفات السياسية والأمنية للدولة المستهدفة. مبتعداً في ذلك عمّا يهرف به في أماكن جغرافية أخرى، أو بخصوص مسائل دولية مختلفة، يضع من خلالها خطاب القيم والمبادئ كساترٍ وقائي، يستعمله ليمارس تدخّلاً مبرّراً أو غير مبرّر في شؤون من لا يروق له، ولسياسته من الأنظمة.
وبالتالي، من المحظور عليه، وعلى إدارته القيام بأية مبادرة (ولو كلامية) لاستهجان القمع
المنهجي الذي تمارسه السلطات المصرية، كما الاعتقالات التعسفية التي لا يكاد يمر يوم من دون أن تُسجّل بحق باحثين ونشطاء مدنيين. كما الأحكام القضائية الكوميدية التي تمليها أجهزة الأمن على قضاءٍ كان له ماضٍ، وصار بلا مستقبل. كما الحملات الإعلامية التي تلوك العبارات المُسيئة والشتائم بلا حدود بحق كل المختلفين في الرأي عن سلطة "الفرعون" الجديد من المحليين، كما "الأشقاء". كما التعامل الوحشي مع باحثين مصريين وأجانب، كل جريمتهم هي العمل الجاد في محاولة فهم المجتمع المصري، بتحولاته الجديدة، كما المختفيان ظلماً وبهتاناً، إسماعيل الإسكندراني وهشام جعفر، أو كما الباحث الإيطالي الشاب، جوليو ريجيني، الذي اغتيل بغموض مشوب بالإدانة الفاضحة.
كل ما ورد، وسواه مما يعلمه السيد ماكرون وصحبه بالتفاصيل، لم يكن كافياً ليُعدّل من محتوى الترحيب، ولا من مستوى الخطاب. فالرئيس ماكرون، "كما أنه لا يقبل أن يعطيه أحد من الخارج دروساً في إدارته فرنسا، لا يقبل لنفسه أن يعطي دروساً لدولة أخرى في إدارة مسائلها الداخلية"، كما ذكر حرفياً في المؤتمر الصحفي الذي جمعه بالجنرال السيسي في باريس. وكأن المطلوب هو التدخل أو إبداء الرأي أو إبداء النصح فيما يتعلق بتطهير المياه الآسنة في المدن المصرية، أو في وضع أولويات البرنامج الثقافي لأوبرا القاهرة، أو في عملية تنظيف أبنية ميدان طلعت حرب. إنها الحرية التي ترتبط عضوياً بالثقافة السياسية الفرنسية (حتى الآن على الأقل)، وهي الحق في التعبير وفي الحياة للآلاف من أبناء هذا البلد.
ترويج الصناعات الفرنسية مهمة أساسية لمن هو على رأس الدولة، ويُحاسب عليه انتخابياً بالتأكيد، ولكن غض النظر عن انتهاكات "الشركاء" والمشترين يكاد يكون ممارسة تليق بتجار الشنطة، وليس بقادة العالم "الحر".
وصل الرئيس الذي استقبلته فرنسا العدالة إلى الحكم عبر انقلاب عسكري، حسبه بعض "السُذّج" إنقاذاً محموداً من "براثن" جماعة الإخوان المسلمين. هذه الجماعة الدعوية التي وصل ممثلوها إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع بحساب عددي، لكنهم سرعان ما أعملوا أدواتهم البعيدة عن السياسة، واعتبروا أن الشرعية تُستمّد فقط من هذه الصناديق بمفهومها الكمي/ من دون الأخذ بالاعتبار تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي الراهن. وحيث ابتعدوا عن مفهوم التشاركية اللازم، لإطلاق بناء سياسي جديد في دولةٍ نخرتها عقود استبداد وفساد متتالية. أُضيف إلى ذلك كله الخلط الصارخ بين السياسي والدعوي، ما حملهم إلى السعي إلى
ولسخرية القدر، تحدثت الأخبار عن نية الحكومة المصرية شراء عدد لا بأس به من طائرات الرافال، غير التنافسية وعالية الثمن، في حين يعاني الاقتصاد المصري من أزمة هيكلية، تضعه في خانة الاقتصادات المنهارة، أو في طور الانهيار بلغة الأرقام وبلغة الحياة اليومية للشعب المصري. وفي هذه الصفقة، كما سواها من عمليات بيع الخدمات أو الصناعات أو الخبرات، يبدو أن رئيس "الأثرياء" في باريس، كما تصفه الصحف الفرنسية الجادة، يضع نصب عينيه فقط الترويج الفعّال للأسواق الفرنسية، متخليّاً عن أية موانع أو حدود ربما تفرضها بعض التصرفات السياسية والأمنية للدولة المستهدفة. مبتعداً في ذلك عمّا يهرف به في أماكن جغرافية أخرى، أو بخصوص مسائل دولية مختلفة، يضع من خلالها خطاب القيم والمبادئ كساترٍ وقائي، يستعمله ليمارس تدخّلاً مبرّراً أو غير مبرّر في شؤون من لا يروق له، ولسياسته من الأنظمة.
وبالتالي، من المحظور عليه، وعلى إدارته القيام بأية مبادرة (ولو كلامية) لاستهجان القمع
كل ما ورد، وسواه مما يعلمه السيد ماكرون وصحبه بالتفاصيل، لم يكن كافياً ليُعدّل من محتوى الترحيب، ولا من مستوى الخطاب. فالرئيس ماكرون، "كما أنه لا يقبل أن يعطيه أحد من الخارج دروساً في إدارته فرنسا، لا يقبل لنفسه أن يعطي دروساً لدولة أخرى في إدارة مسائلها الداخلية"، كما ذكر حرفياً في المؤتمر الصحفي الذي جمعه بالجنرال السيسي في باريس. وكأن المطلوب هو التدخل أو إبداء الرأي أو إبداء النصح فيما يتعلق بتطهير المياه الآسنة في المدن المصرية، أو في وضع أولويات البرنامج الثقافي لأوبرا القاهرة، أو في عملية تنظيف أبنية ميدان طلعت حرب. إنها الحرية التي ترتبط عضوياً بالثقافة السياسية الفرنسية (حتى الآن على الأقل)، وهي الحق في التعبير وفي الحياة للآلاف من أبناء هذا البلد.
ترويج الصناعات الفرنسية مهمة أساسية لمن هو على رأس الدولة، ويُحاسب عليه انتخابياً بالتأكيد، ولكن غض النظر عن انتهاكات "الشركاء" والمشترين يكاد يكون ممارسة تليق بتجار الشنطة، وليس بقادة العالم "الحر".