متقاعدو ألمانيا.. أطفال الحرب العالميّة الثانية

09 أكتوبر 2014
يصرّ بعض المتقاعدين على العودة إلى العمل (Getty)
+ الخط -
يُطلق على جيل المتقاعدين في ألمانيا حالياً "أطفال الحرب". كثيرةٌ هي البرامج والأفلام التي وثّقت معاناتهم وتفاصيل حياتهم. موتُ هذا الجيل يعني موت شهود الحرب العالمية الثانية وويلاتها، أو الأمناء على الصورة والذاكرة، الذين عايشوا وسمعوا قنابل الحلفاء تسقط على الأراضي الألمانية. هؤلاء الذين هُجّر الكثير منهم مع عائلاتهم قبل أن يعودوا إلى بلادهم بعد هزيمتها.
كثيرون فقدوا آباءهم على جبهات الحرب. شهدوا بناء جدار برلين وهدمه. عايشوا نهضة ألمانيا الاقتصادية، والدفع عبر بطاقة الائتمان الإلكترونية...

خوف.. خوف

كارمن (75 عاماً) هي إحدى هؤلاء. تُعاني مرض "الألزهايمر". تولّى ابنها مهمة الحديث عن ماضٍ ظلّ عالقاً في ذاكرتها حتى الأيام الأخيرة قبل أن تفقدها بالكامل. يقول: "كانت أمي في بريمن. وقد تلقت هذه المدينة الكثير من ضربات الحلفاء وخصوصاً في الفترة الأخيرة من الحرب. ظلّت لوقت طويل تخبرنا عن أصوات القنابل، وكيف كانت تختبئ مع والدتها وشقيقها في الملجأ. خوف خوف"، كانت تردد. تضيف: "كان لا بد لها أن تنسى حتى تتابع حياتها. لكنها أدركت أنها لم تنس، أقله صوت القنابل وهلع الطفولة وفقدان الأب الذي حارب مع النازيين. لن تنسى كراهيتها لهتلر والحزب النازي، الذي ترى وعدد كبير من أبناء جيلها أنه سبب شقائها وشقاء ألمانيا بالكامل".
وتجدر الإشارة إلى أن نحو 1.4 مليون شخص في ألمانيا يعانون الألزهايمر. ويبدو أن الحكومة الألمانية انتبهت إلى زيادة عدد المصابين بهذا المرض. وقد بدا ذلك جلياً من خلال تجهيز العديد من دور الرعاية الخاصة بهذا المرض، يضاف إلى ذلك رفع مستوى الخدمات فيها. وأكثر من ذلك، هناك توجّه نحو تشييد مبانٍ تُناسب المصابين بالألزهايمر.
لا تنحصرُ معاناة هؤلاء المتقاعدين بذكريات الماضي. للحاضر معاناته أيضاً، وخصوصاً حين يجدون أنفسهم وقد أصبحوا في البيت من دون عمل. هؤلاء يشعرون أنه لا يزال لديهم ما يقدمّوه. لا يرغبون فقط بمجالسة أحفادهم والعناية بهم. تتعدى أحلامهم الحدود. منهم هانو مولر، الذي أنشأ مشروعا أسماه "قليل من المال من أجل الأيدي الصغيرة". تقوم فكرة المشروع على جمع التبرعات لإنشاء مخبز في بوليفيا. فخلال زيارته لها، لمس الفقر والحاجة الكبيرة إلى مشاريع مماثلة. قرّر إحياء الحياة في تلك المنطقة. يقول: "الفقر مسؤولية اجتماعية. ومن شأن مشاريع كهذه أن تساعد في تحسين الحياة، ونحن قادرون على ذلك".
من جهة أخرى، كشفت أحدث الإحصاءات أن عدد الألمان المتقاعدين والمستقرين خارج ألمانيا تجاوز 200 ألف متقاعد، وقد ارتفع إلى 40 في المائة خلال السنوات العشر الأخيرة. وتجدر الإشارة إلى أن "الحكومة الفدرالية مجبرة على دفع رواتب متقاعديها البالغ عددعم 221 ألفاً، أينما حلّوا". وبيّنت الدراسة أيضاً أن "أكثر الأماكن التي يقصدها الألمان هي سويسرا والولايات المتحدة والنمسا".

يعودون إلى العمل

ليست القارة عجوزاً بالكامل. مواطنوها قادرون على العمل حتى بعد سن التقاعد. فالمذيعة كارين بيرغة التي أنجزت الكثير من البرامج والحوارات الإذاعية، قررت العودة إلى العمل في الإذاعة نفسها ومن دون مقابل مادي. بيرغة ليست وحدها. فالكثير من المتقاعدين الألمان الذين اكتشفوا بعدما تقدموا في السن أنهم قضوا عمرهم في مهنة معينة يشعرون بغربة في منزلهم، بعدما غادروا مكاناً ألفوه إلى آخر موحش. امرأة أخرى عادت للعمل في المخبز، وأخرى نظمت دورات للرقص...
في السياق، يقول بائع الورد كارل الذي يعيش وحيداً إنه "مع بداية الربيع، يرتدي قبعته التي تعلوها الزهور، ويتجه بعربته الصغيرة التي يملؤها بالورد إلى ساحة المدينة". يشارك في إعلان بداية فصل الربيع. يبيع جميع أنواع الورد الذي يعيش لوقت طويل.
كثيرون مثل كارل. يبيعون منتجات خفيفة يزرعونها في حدائقهم أو مزارعهم، كالعسل البري، أو الكريمات الطبيعية، أو الخضار الطازجة، وغيرها. والدافع هو في الغالب الوحدة، أو زيادة الدخل، أو الاثنان معاً.

مسرح

أنطونيو الذي يبلغ من العمر سبعين عاماً، عرف كيف يقتل وحدته. يقصد ومجموعة من أصدقائه المسنين المسرح. على خشبته، يتحدثون عن معاناتهم علّهم يتجاوزون المحن التي عاشوها. يقول لـ "العربي الجديد": "التمثيل ليس هوايتي. أنا في الأساس مهندس ميكانيك. لكنني وجدت في المسرح علاجاً لآلام الطفولة. فقد عشت طفولة صعبة وذكريات في كازخستان، ورافقت أهلي في رحلة العذاب إلى ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب. أحكي عن معاناتي أمام الجميع، ويقوم ممثلون بتجسيد الأدوار خلفي".
هذه التجربة لا تخصّ أنطونيو وحده. فالكثير من المسنين والمتقاعدين يجدون في التعبير عن مشاكلهم وتجسيدها على المسرح علاجاً جيداً. وتجدر الإشارة إلى أنه تم توثيق حياة أنطونيو في الكتاب الألماني الشهير "علينا أن نقول ماذا حدث"، والذي يتناول حياة النساء الألمانيات وأطفالهن، خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. كذلك، يشكّل جيل أنطونيو نهاية حقبة سوء معاملة الأطفال من قبل الأهالي، وبداية عصر التربية الحديثة.

فقر

يقول الصحافي يوغ سورغا لـ "العربي الجديد" إن "الراتب التقاعدي في زمن ألمانيا الشرقية كان يغطي فقط متطلبات الحياة اليومية. كان شراء تلفاز أو سيارة أمراً في غاية الصعوبة. الطبابة أيضاً كانت جيدة ومجانية. وكان على الموظف أن يدفع من راتبه التقاعدي فقط لصندوق الراتب، من دون أن يدفع لصندوق الضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل، باعتبار أنه لم يكن هناك عاطلون عن العمل في ألمانيا الشرقية. لكن الوضع سيكون مختلفاً بالنسبة لجيل 1960، أي جيلي. فالراتب التقاعدي منخفض لأن المتقاعدين لم يكونوا يكسبون الكثير بعد اتحاد ألمانيا الشرقية والغربية. والأكيد أنهم سيعيشون فقراً إذا لم تتدخل الحكومة".
كثيرون أيضاً هم المتقاعدون في ألمانيا الذين يكتفون بالجلوس في المنزل، أو يذهبون إلى دار العجزة، أو ينتظرون الموت.
المساهمون