ماي تخسر الرهان الانتخابات البريطانية: "المحافظين" يفقد الأغلبية ونصر غير مكتمل لـ"العمال"
لم تأت نتيجة الانتخابات العامة التي شهدتها بريطانيا يوم الخميس، وفق تطلّعات رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، التي أرادت بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، الحصول على تفويض شعبي يجعل بلادها تتجه إلى مفاوضات "بريكست" وهي أقوى وأكثر استقراراً. غير أن نتائج الانتخابات فاجأت الكثيرين، مع فشل المحافظين في الحصول على الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة، ما وضع ماي أمام خيارات أحلاها مرّ، خصوصاً أن ارتدادات هذا الاستحقاق لن تقتصر على الداخل البريطاني، بل ستمتد إلى أوروبا التي تبدأ قريباً مفاوضات مع لندن حول "بريكست"، وهذا ما بدأت معالمه تظهر سريعاً مع إعراب مسؤولين أوروبيين عن قلقهم من ألا تجري مفاوضات "بريكست" بشكل جيد بسبب ضعف الحكومة البريطانية الجديدة.
مغامرة سياسية
كانت ليلة الخميس-الجمعة طويلة على ماي، التي غامرت بمستقبلها السياسي عندما دعت في إبريل/نيسان الماضي إلى انتخابات عامة، لم تكن مضطرة لتنظيمها، بل مدفوعة فقط بالحاجة إلى تفويض شعبي، كانت تفتقده وهي التي "ورثت" زعامة حزب المحافظين، ورئاسة الحكومة، بعد استقالة ديفيد كاميرون، الذي خسر رهان استفتاء بريكست في عام 2016، تماماً كما خسرت ماي رهان التفويض الشعبي أمس.
كانت ماي تطمح، وبكل ثقة إلى تعزيز قيادتها أولاً، ثم تعزيز وضع حزب المحافظين في البرلمان، ورفع عدد مقاعده الـ331، حتى تتمكن من تقوية أوراقها على طاولة المفاوضات التي يُفترض أن تنطلق مع الاتحاد الأوروبي في 19 يونيو/حزيران الحالي. غير أن الرياح جرت على غير ما تشتهي سفن ماي والمحافظين، وبدلاً من ذلك، عادت ماي مكسورة الظهر بعد تراجع عدد نواب حزبها إلى 318، مما يفرض عليها وعلى حزبها مراجعة كل حساباتهما من جديد.
في الجهة المقابلة، حقق زعيم حزب العمال، جيريمي كوربين، انتصاراً مهماً في حرب انتخابية فُرضت عليه من قبل ماي، التي ظنت أنه خصم ضعيف، يقف على رأس حزب منقسم، وإذ به يفاجئ الجميع بانتصار تُوج برفع عدد مقاعد الحزب في البرلمان إلى 261 نائباً، أي بزيادة 31 مقعداً عما حققه في انتخابات 2015.
خسارة المحافظين للأغلبية، والنصر غير المكتمل لـ"العمال"، فرضا على ماي القبول بتشكيل حكومة ائتلافية بأغلبية هشة (328 نائباً) مع حزب "الديمقراطي الوحدوي" الشمال إيرلندي، الذي حصل على 10 مقاعد، متنازلة بذلك عن طموحها بالعودة إلى الحكم مع "حكومة أكثر قوة وأكثر استقراراً" كما كانت تردد خلال الحملات الانتخابية.
وأكدت ماي أنها تخطط للبقاء في منصبها كرئيسة وزراء، بفضل التحالف مع الحزب "الديمقراطي الوحدوي". وجاءت تصريحاتها في مؤتمر صحافي أمس عقب لقائها بالملكة إليزابيث الثانية، في قصر باكنغهام، لطلب تصريح ملكي بتشكيل الحكومة الجديدة. وأوضحت ماي أن حزب المحافظين والحزب الديمقراطي الوحدوي سيعملان معاً على "الوفاء بوعود بريكست"، مضيفة: "الحكومة التي سأشكلها ستستمر في قيادة عمليات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي". ولفتت إلى أن حكومتها ستحرص على جعل بريطانيا "آمنة ومستقرة وقوية".
خسارة فادحة للمحافظين
يظهر وزير الخزانة السابق، جورج أوزبورن، أكثر الشامتين برئيسة الوزراء التي استبعدته من فريقها الوزاري عندما تولت رئاسة الحكومة في يوليو/تموز الماضي. ويبدو أن سحر الانتخابات انقلب على الساحرة تيريزا ماي التي أرادت تقوية موقعها في قيادة حزب المحافظين، وعلى رأس حكومة متماسكة وقوية، وإذ بها تخسر الأغلبية في مجلس النواب، ويفقد ستة من وزرائها مقاعدهم في مجلس النواب. بلا شك أن "نتائج الانتخابات كانت كارثية بالنسبة لتيريزا ماي"، على حد تعبير زعيمة الحزب القومي الاسكتلندي، نيكولا ستيرجون، التي لم تكن بحال أفضل بعد خسارة حزبها 18 مقعداً.
ويرى مراقبون أن ماي كانت ضحية مغامرة سياسية لم تكن مضطرة لها، تماماً، كما كان سلفها ديفيد كاميرون ضحية استفتاء "بريكست" في العام 2016، الذي أطاحه من الحكم. وبدلاً من تقوية أوراقها في المفاوضات المقبلة مع الاتحاد الأوروبي، والذهاب إلى بروكسل بتفويض شعبي مساند، نزع الناخبون أي أوراق قوة باقية في يد ماي، وقلصوا مساحة المناورة أمامها إلى حدود "بريكست" ناعم، لا يناسب أهواء ماي وطاقمها الوزاري الذي ضم صقوراً أرادوا قطيعة تامة مع الاتحاد الأوروبي.
ويبدو أن الظروف الموضوعية التي أحاطت بهذه الانتخابات لم تكن كذلك لصالح ماي، فتعرّض بريطانيا لثلاث هجمات إرهابية منذ مارس/آذار الماضي، وضع ماي أمام مدفع الناخبين الذين حمّلوها مسؤولية الفشل بالتصدي للإرهاب منذ كانت وزيرة للداخلية وحتى اللحظة، وهي كانت المسؤول المباشر عن خفض أعداد رجال الشرطة في إنكلترا وويلز بنحو 20 ألف شرطي خلال ست سنوات شغلت فيها منصب وزيرة الداخلية في الفترة من 2010 إلى 2016. كما انتقد خصوم ماي فشل استراتيجيتها الأمنية التي وضعتها عام 2011، لمعالجة التطرف، إذ لم تمنع توجّه المئات من البريطانيين إلى جبهات القتال في سورية والعراق وليبيا إلى جانب الجماعات الإرهابية، كما لم تحمِ بريطانيا من الإرهاب الذي ضرب العاصمة لندن ومدينة مانشستر، ثلاث مرات في غضون ثلاثة أشهر.
ورأت صحيفة "ذا غارديان" أن هناك أسباباً أخرى ساهمت في تراجع شعبية حزب المحافظين، الحاكم منذ العام 2010، وعلى رأسها تبنّي الحزب لسياسات تقشف غير شعبية، والتلويح بإمكانية إنهاء العلاقة مع الاتحاد الأوروبي من "دون اتفاق، بدلاً من قبول اتفاق غير مشرف"، والعجز عن توفير الميزانية الضرورية لإصلاح قطاع الصحة العمومية، وفشل سياسات الحزب في تمويل الرعاية الاجتماعية، وخفض الإنفاق على المدارس. أضف إلى ذلك تركيز مهندسي الحملة الانتخابية لحزب المحافظين على شخص تيريزا ماي، والاستهانة بشخص زعيم حزب العمال المعارض، جيريمي كوربين، وهو ما لم يلق استحسان شريحة الشباب الذين صوتوا هذه المرة بكثافة، مع ميل واضح للزعيم اليساري كوربين.
نصر لكوربين
قبل انتصاره على خصومه من خارج حزب العمال، انتصر كوربين على خصومه داخل الحزب، وهو الذي واجه محاولتي انقلاب من كتلة حزبه البرلمانية. سجل الزعيم اليساري نجاحاً مزدوجاً على مستوى حزب العمال، إذ تشير الأرقام إلى نجاح كوربين في استعادة ثقة الناخبين بالحزب الذي خسر الانتخابات العامة في العام 2010، ثم خسرها مجدداً في العام 2015. كما نجح كوربين في تقوية مركزه كزعيم قوي لحزب العمال، استطاع خوض انتخابات شرسة، بعد أن خذله جناح "البليريين" في الحزب، وتخلى عنه الكثير من أصدقاء الأمس، ولم ترحمه الصحافة اليمينية التي فتحت النيران عليه، وعادت لتقلب في تاريخ الرجل وعلاقاته مع حركات التحرر العالمية من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، إلى علاقاته بحزب الله وحركة حماس.
كما انتصر كوربين بتغيير قواعد اللعبة الانتخابية في بريطانيا، عندما نجح في توسيع دائرة المشاركة الانتخابية باستقطاب الأطراف والأرياف والشباب، مما رفع نسبة المشاركة في انتخابات الخميس إلى 68 في المائة.
وقال كوربين أمس الجمعة: "موقفنا واضح، نريد بريكست يحمي وظائفنا"، مؤكداً أن عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي "يجب أن تتواصل لأنه تم تفعيل المادة 50" من اتفاقية لشبونة. وبعد أن دعا ماي إلى الاستقالة والإفساح في المجال لحكومة "لها صفة تمثيلية حقيقية"، طرح كوربين نفسه في موقع الزعيم، مؤكداً أن حزبه "على استعداد لخوض مفاوضات بريكست باسم البلاد".
نصف "بريكست"
استهلت ماي خطاب تنصيبها في يوليو/تموز الماضي، بالتأكيد أن "بريكست يعني بريكست"، ومنذ ذلك الحين وهي تُصر على أنها مستعدة للخروج من مفاوضات "بريكست" من دون اتفاق ما لم توافق أوروبا على شروطها. وخلال مناظرة تلفزيونية جرت بين ماي وكوربين في 29 مايو/أيار الماضي، وعدت ماي بأن تكون "حازمة قدر الإمكان" خلال المفاوضات، مفضّلة ألا يكون هناك اتفاق بدلاً من القبول بإبرام اتفاق "سيئ". كلام ماي يعني إما أن تقبل أوروبا بفتح السوق الأوروبية أمام الخدمات والسلع والبضائع البريطانية من دون إلزام بريطانيا بفتح أبوابها أمام المهاجرين الأوروبيين، أو أنها ستغادر أوروبا بشكل تام من دون أي اتفاق أو تسوية.
ويبدو أن هذه الشعارات باتت من الماضي بعد الانتخابات، إذ أصبح "الخروج الصعب من الاتحاد الأوروبي في سلة القمامة"، كما قال وزير الخزانة السابق، جورج أوزبورن في تصريحات لقناة "اي تي في" البريطانية، فلم يعد بمقدور ماي الضعيفة، الفاقدة للتفويض الشعبي، وغير المتمتعة بأغلبية في البرلمان، فرض شروط صارمة في المفاوضات، وقد تقبل في النهاية بما وصفه المعلقون السياسيون بـ"نصف بريكست".
الشباب قلبوا الكفة
تحدى كوربين النقابات المهنية واستطلاعات الرأي وحملات وسائل الإعلام، وخاض مغامرة انتخابية وقودها وعمادها جيل الشباب، الذين ظهروا بأعداد لافتة وغير مسبوقة أمام مراكز التصويت، كما ظهروا كجيوش جرارة سيطرت على الفضاء الإلكتروني، واحتلت وسائل الإعلام الاجتماعي. وقالت الكاتبة في صحيفة "ذا غارديان"، ريانون لوسي كوسليت، إن "الشباب استعادوا زمام السيطرة مجدداً، لقد عاد هؤلاء إلى الساحة السياسية بعد أن راهن البعض على أن الشباب الذين يعوّل عليهم كوربين كسالى ولن يذهبوا إلى مراكز التصويت". واعتبرت أن مصداقية كوربين، غير المعهودة في السياسيين، هي ما دفع الشباب للالتفاف حوله، ودعم حملاته الانتخابية، ورفع صوره على مواقه التواصل الاجتماعي. وأضافت: "أياً كانت النتيجة النهائية لهذه الانتخابات، فقد أثبتت أن الشباب هم قوة ينبغي أخذها على محمل الجد، ولديهم الرغبة بالمشاركة في العملية الديمقراطية، ويجب أن تكون آراؤهم ممثلة في مراكز القرار".