ماراثون المعارضة وإعادة إنتاج السلطة

02 ابريل 2015
كانت كلمة "المعارضة" محمّلة بحمولة سحرية أيديولوجية(Getty)
+ الخط -

إن التأمل في مسارات الثورات العربية، لجهة دور الشباب فيه بين البدايات واليوم، سيضعنا أمام مفارقة مربكة: حضور هائل وفاعل وجذري في البدايات وغياب مطلق في النهايات، خاصة في المجال السياسي ومواقع السلطة، الأمر الذي يطرح أسئلة عن سر الغياب رغم دوره الكبير في إشعال الثورات، التي من المفترض أنها حصلت بفعل التغيير الذي أبقى، في مفارقة أخرى، الرموز القديمة للمعارضة والسلطة من جديد، بما تحمله من الذهنيات نفسها المعادية للتغيير العميق في كثير من الأحيان.

بفعل الاستبداد العميق الذي وصل في البلدان العربية حد مواجهة الكلمة الحرة بالاعتقال بحد أدنى والقتل بحد أعلى، كانت كلمة "المعارضة" محمّلة بحمولة سحرية أيديولوجية تسبغ فعل الإيجاب على كل من يقوم بها أو يمارسها، باعتبار أنها "مناضلة" بمواجهة الدكتاتورية، في إغفال أو تجاهل تام لقراءة برامج المعارضة وسياستها، والتي لم يتح لها الاستبداد عموماً أن تفعل الكثير في ظل شرط سيئ، ليتقدم فعل النضال على العمل السياسي، مصحوباً برأي عام شائع يشيطن "السياسة" إما خوفاً من السلطة أو باعتبارها "فن المراوغة والكذب"، الأمر الذي خلق عزوفاً عن ممارستها من قبل الشباب مقابل نظرة إيجابية إلى من يناضل ضد السلطات.

حين اندلع الربيع كانت المعارضات تحتل موقعاً إيجابياً في عيون شبابها، ما دفعهم لإعطائها "شك بياض مفتوح"، دون قراءة للبرنامج السياسي لهذه القوى، إذ ساد وهم يقول: طالما هي معارضة "مواجهة" للدكتاتورية، فإنها ستحمل الثورة إلى ضفة الحرية، مقروناً برؤية سادت خلال عامي 2011-2012 تقول: أي شيء أفضل من الاستبداد، ليعزف الشباب عن تشكيل قوى سياسية حقيقية ذات مشروع هادف للوصول إلى السلطة، إلا ما ندر وعلى عجل، في محاولات سريعة لاستثمار الثورة سياسياً من قبل البعض، أي نشأت هذه الحركات والأحزاب الشبابية في قلب الميدان الثوري بما تحمله الثورة عادة من فوضى وراديكالية وليس في قلب الميدان السياسي، فجاءت حركات محمّلة برغبة التغيير أكثر من فعل التغيير المحمول على قراءة واقعية للممكن والمستحيل.

خلال المسار، اكتشف الشباب وهم الخديعة التي وقعوا بها، فالنضال الطويل ضد الدكتاتورية لا يعني قدرة على قيادة البلد أو تبني أهداف الثورة العميقة بالضرورة من حيث هي استبدال بنية قديمة ببنية جديدة، بل كشف المسار أن المعارضات التقليدية هي وجه آخر للسلطة ولا تحمل أي مشروع تغيير جذري، مختصرة الأمر بالوصول إلى البنية الفوقية، "السلطة"، بعيداً عن إحداث أي أثر على صعيد البنية التحيتة "الاقتصادية الاجتماعية"، بل حاولت في غضون أشهر أن تضبط البناء التحتي بما يوافق سعيها للبقاء في السلطة، الأمر الذي كشف فراغ الساحة السياسية العربية: قوى سياسية عاجزة، "سلطة ومعارضة"، طاردة للشباب في بنيتها العميقة وشباب حالم بالتغيير لا يملك مشروعه والأدوات/ الأحزاب التي تساعده على وضع مشروعه موضع التنفيذ.

وإذا كان لنا أن نستعير شيئاً من علم الاقتصاد لننقله إلى المجال السياسي الاجتماعي، فإن مفهوم التراكم قد يفسّر لنا الكثير هنا، إذ نحن أمام قوى سياسية تقليدية "معارضة" لم يتح لها الاستبداد أن تراكم خبرة سياسية في جو صحي، فبقيت ممارستها السياسية أسيرة مناخ الاستبداد، في حين أن الشباب العازف عن السياسة قبل الربيع والداخل بقوة إليها بعد الربيع، يدخل ميداناً جديداً بثقافة سياسية هشة وخبرة ضعيفة عمرها أقل من أربع أو خمس سنوات، بما يعني أنه لم يتح له الوقت بعد ليراكم تجربته السياسية ويبني أحزاباً وقوى تحتاج عقوداً حتى تثمر، ما يعني أن ما يحصل اليوم هو نتاج موضوعي لمحصلة القوى في الواقع، فلا شيء يخلق من العدم.

وكون التغيير يحصل تاريخياً بفعل قوى سياسية ذات مشروع واضح يصل السلطة من خلال أحزاب تتنافس ديمقراطياً، فإن غياب النقابة أو الحزب أو القوة السياسية التي تحمل هذا المشروع، يعني أن القوى القديمة، "سلطة ومعارضة"، ستبقى عائمة في السلطة، إلى أن يتمكن الحلم الثوري الشاب من مأسسة نفسه والتقدم إلى ساحة الفعل السياسي، أي تحويل الحرية التي ميدانها الساحات إلى ديمقراطية في ميدان المؤسسات.

دون ذلك قد لا يثمر الربيع، علماً أن هذا الأمر يحتاج وقتاً حتى ينضج، وعليه يصح القول إننا في مرحلة انتقالية طويلة، سمتها الأساس: لا القديم قادر على الحكم، ولا الجديد مؤهل لذلك بعد. والنتيجة مرهونة بفعل الشباب وقدرتهم على مأسسة ربيعهم سياسياً.


(سورية)

المساهمون