مات محمد كبّة

28 أكتوبر 2016

(فاتح المدرس)

+ الخط -
لم يكن محمد كبّة سعيد الحظ. ليس فقط لأنه ولد لاجئاً في مخيم برج البراجنة عام 1951، ولا لأنه انضم إلى صفوف المقاومة الفلسطينية في مراهقته المبكرة، وشهد أولى الهزائم، وأول انكسارات الحلم في الأردن، ولا لأنه كان شاعراً، ثم اكتشف عبث الشعر وعدمية الكلام، ولا لأنه أراد أن يكون بروليتارياً، هكذا بكل الصفات التي أغدقها كارل ماركس على عمال المصانع، فلم يجد مصنعاً يصقل له رغبته، ويجعلها صفته الأثيرة في المخيم، ولا لأنه لم يكتف بما قدّمه المترجمون العرب، ومن قبلهم السوفييت، لمأثورات ماركس وإنجلز ولينين، فأراد أن يقرأ التراث بلغةٍ لا يجرؤ مستخدموها على الكذب والتزوير، كما قال له صديقه المثقف اليساري التونسيّ، العفيف الأخضر.
كان محمد كبّة عاثر الحظ، لأن جموحه في المعرفة والقبض على مفاتيح الكون كان بلا حدود، وكان الواقع من حوله تالفاً وعاجزاً وجاهلاً. كان سيئ الحظ في كل شيء، فقد ذهب مراهقاً إلى الأردن، ليتدرب مع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وليصبح مقاتلاً صغيراً في صفوفها. وربما اعتبر أن من حُسن طالعه أنه التقى، وهو المقاتل الفتى، حارس خيمة ما سميّ وقتها أول مدرسة للكادر في أحد معسكرات الجبهة، بالعفيف الأخضر الذي جاء من باريس لإعطاء محاضراتٍ في الماركسية لكوادرها، فأدخله العفيف إلى الخيمة ساخراً من الحراسة، والتمييز بين عنصر وكادر في تلقي المعرفة، فكان العفيف أول نموذج لمثقف ماركسيّ يسحره، ويودي بروحه، في ما بعد، إلى معارج ستقطع أنفاسه بالزاد الشحيح الذي يحمله الفتى اللاجئ في رحلةٍ من القلق والبحث والحيرة.
قليلون بيننا عرفوا أن محمد كان يكتب الشعر، ونشر كتاباً باسم آخر. ولكن، كلنا كنا نعرف أن والد محمد كبّة، صاحب القهوة في مخيم برج البراجنة، الذي افتتح حانوتاً في محلة الحمراء في بيروت، كان أكثر جموحاً من ابنه في البحث والقلق والحيرة، وأكثر تمرداً على النظام الاجتماعي والفكري الذي نشأ فيه، في ترشيحا قريته الفلسطينية، وفي لبنان مكان لجوئه البائس. لم يكن محمد كبّة سعيد الحظ، لأنه عندما أراد أن يتمرّد على سلطة العائلة تعثر بأبٍ متمرّدٍ على كل شيء، بما في ذلك الدين وأنماط النظم الاجتماعية والسياسية. كان أبوه شبه أميّ، لكنه كان يناقش أفكار الماركسيين بمعرفةٍ تتجاوز طروحاتهم وتعبيراتهم الأكاديمية. وكان لأبي محمد أصدقاء، منهم جار حانوته، الدكتور صادق جلال العظم. وصار العفيف الأخضر الذي قدمه له ابنه محمد صديقاً حميماً له.
هناك في حانوت أبي محمد، كنا نلتقي صديقنا محمداً، وكان أبوه كريماً معنا، فكان حانوته مزيجاً من حانةٍ ومطعم إذا جاع أحدنا، ومحلاً لبيع الخمور، إذا أردنا الذهاب بزجاجة نبيذ إلى بيوتنا. وكان الحانوت، في آخر شارع المكحول الشهير، ملتقى سريالياً، يجمع الشعراء الصعاليك العراقيين الهاربين من عراق البعث، وسودانيين يعملون خدماً وطباخين في بيوت اللبنانيين، قبل أن تكتشف البرجوازية اللبنانية الخادمات السيريلانكيات والإثيوبيات والفيليبينيات. كان كل هؤلاء يجلسون على صناديق خشبية أمام الحانوت يشربون، ومحمد كبّة متسمرٌ هناك، ينظر بلا كلام، يبتسم ابتسامته الخجولة التي لم نعرف سرّ انسيابها يساراً من فمه، مع نصف إغماضةٍ لعينيه.
كان محمد حينها ربما قد بدأ رحلته الخاصة نحو عالمه الداخلي، الذي لا رجعة منه إلى ما حوله من واقعنا. كانت عيناه دائماً معلقتين بأية امرأةٍ تمر أمام الحانوت، وكان أبوه يعتقد أنه ربما نقص العاطفة جسداً وروحاً، لكن محمد لم يعد يسمع كلامنا، فقد كان يتحدّث إلى مخلوقاته التي ارتاحت لها روحه المعجونة بالأسئلة التي لم يجد أجوبتها عند أبيه، أو الكتب أو في الهجرة، فاعتزل ومات وحيداً في المخيم، بعد أن استكمل رحلته في التمرّد على الحياة.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.