مؤتمر فتح السابع: نتائج ومخاوف

18 ديسمبر 2016
خرج الرئيس الفلسطيني أكثر قوة من المؤتمر (عصام الريماوي/الأناضول)
+ الخط -
انفضّ المؤتمر السابع لحركة "فتح"، وتزايدت التقديرات التنظيمية الداخلية والسياسة الخارجية، إنه قد يكون من أهم وأخطر مؤتمرات الحركة، على صعيد مساهمته في صياغة مستقبلها، سلباً أو إيجاباً، كل من وجهة نظره، في ضوء قدرته على تثبيت جملة وقائع على الأرض.
وتركت نتائج المؤتمر، المجال مفتوحاً لاستشراف مستقبل الحركة، ومدى قابليتها للانشطار، وتساؤلاً عن مدى قدرة القيادي الأمني السابق المطرود من "فتح" محمد دحلان ومجموعته تأسيس "فتح جديدة"، وفق ما هو متاح من مؤشرات ومعطيات ميدانية.

شواهد ميدانية
على مدار أيام انعقاد مؤتمر فتح، يمكن تسجيل عدد من الشواهد الميدانية، تابعها كاتب السطور عن كثب من واقع متابعته لفعاليات المؤتمر العلنية، وبعض كواليسه الداخلية، من أهمها:
1. قدرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، رئيس فتح ورئيس السلطة ومنظمة التحرير، على تجاوز الضغوط الداخلية والخارجية التي طالبته بتأجيل عقد المؤتمر، إلى حين إجراء المصالحة الفتحاوية الداخلية، بما يتضمن إعادة خصمه اللدود محمد دحلان إلى صفوف الحركة، مما قد يشير إلى عناد غير متوقع من عباس في وجه هذه الضغوط.


لم يكن سراً أن حجم الضغوط والمطالبات الخارجية لتأجيل انعقاد المؤتمر، وصلت حد أن يبلغه بهذه الرسالة رؤساء الدبلوماسية العربية، سابقاً وحالياً، وهم أمناء الجامعة العربية السابقون والحالي، عمرو موسى ونبيل العربي وأحمد أبو الغيط، الذين أوصلوا لعباس رسالة من بعض الدول العربية الفاعلة مفادها، تأجيل المؤتمر، لكن عباس لم يلتزم بذلك، وكأنه لم يسمع شيئاً.
2. أظهر المؤتمر توافقاً قد يقترب من مستوى الإجماع للإبقاء على القيادة التنظيمية الحالية للحركة تمسك بزمام أمورها، ومفاصيل إدارتها، بعيداً عن أي دخول أطراف جديدة على الحركة، يمكن أن يطلق عليها جيوب داخلية، سواء من دحلان ذاته في غزة، أو بعض الغاضبين على عباس في الضفة الغربية.

تبدو الإشارة مهمة هنا إلى القول، إن عباس أحكم سيطرته الأمنية بصورة واضحة على الضفة الغربية، بحيث نفذت أجهزته الأمنية هناك سلسلة اعتقالات واستدعاءات وإقامات جبرية ضد كل من يشتبه بمعارضته له من أوساط قيادات فتح المتوسطة، في حين أن معركة "حماس" التي تسيطر على غزة، رفضت السماح لجماعة دحلان بإقامة أي فعاليات تنظيمية معادية لعباس.
3ـ ربما لم يدرك أحد، إلى ما قبل انعقاد المؤتمر، درجة السطوة والتحكم التي يسيطر بها عباس على فتح، فقد زادت التقديرات الداخلية والخارجية أن أحداً في الحركة لن يبلغ ما بلغه زعيمها الراحل ياسر عرفات، من جهة النفوذ والتأثير، حتى جاء "أبو مازن" ليقترب من هذه الدرجة، وقد تجلى ذلك بصورة واضحة في حجم التصفيق والتأييد لخطابه، التي زادت عن 230 مرة في خلال ثلاث ساعات متواصلة.


لعل فتح أرادت بهذا التحشيد التنظيمي وإبداء التأييد شبه المطلق لعباس، الالتفاف حول من تراه قائداً تاريخياً لها، وقطع الطريق أمام أي محاولات داخلية وخارجية لاستنساخ نموذج إقصاء عرفات، بقرار إسرائيلي ودولي وتواطؤ إقليمي وتنفيذ فلسطيني، مع أن عباس لا يبدو بعيداً عن التورط بتلك العملية.
4ـ بدت فتح أكثر من أي وقت مضى، وبخلاف مؤتمراتها السابقة، مضطرة لزيادة حجم التحشيد الداخلي والخارجي، وربما الخارجي أكثر من الداخلي، على اعتبار أن فتح، الخبيرة بالتدخلات الخارجية، تدرك أكثر من غيرها أن الشأن الفلسطيني قلما أن يكون فاعلاً رئيساً، بفعل انكشاف الجبهة الداخلية الفلسطينية أمام التدخلات الإقليمية والدولية.
وقد اتضح ذلك بوصول قرابة ستين وفداً عربيٍاً ودوليٍاً للمشاركة في مؤتمر تنظيمي عادي يخص حركة فلسطينية، إلا إذا كانت فتح تعلم تماماً أن مؤتمرها السابع هذا سيكون له تبعات إقليمية ودولية أكثر من تلك المحلية الداخلية، مما دفع عباس لتأجيل إلقاء خطابه ذي الساعات الثلاث إلى اليوم التالي لإتاحة الفرصة أمام رؤساء تلك الوفود لإلقاء كلماتهم البروتوكولية، وهي في خلاصاتها تشيد به وبقيادته لفتح.
هذه أهم الخلاصات التي يمكن تسجيلها على عجالة، من انعقاد المؤتمر، وتفاصيله الإجرائية، وهو ما يشير إلى القول، إنه نجح في الانعقاد، والترتيبات، ووفق ما علمه كاتب السطور من أوساط داخل المقاطعة، مقر الرئاسة الفلسطينية، فقد خرج المؤتمرون راضون عنه، على اعتبار أن نجاح انعقاده من الناحية المبدئية، قد لا يقل أهمية عن خروج مقرراته وتوصياته.

مستقبل الانشقاق؟
كان لابد قبل الحديث عن مدى نجاح فرضية انقسام فتح، أو انشقاقها، أو انشطارها، التقديم بالسطور السابقة لإظهار حجم الهواجس والكوابيس التي طاردت قيادات فتح التاريخية من إمكانية نجاح هذا المخطط.
صحيح أن دحلان، ومريديه في الداخل، وداعميه في الخارج، أرادوا له عبر القوة الناعمة أن يشارك في المؤتمر بمظهر الفاتح المنتصر، وبطريقته المعهودة في استقطاب الولاءات يتم انتخابه مجدداً للجنة المركزية لفتح، وبذلك يتغاضى الرجل عن الطريقة المتوقعة لتلبية طموحاته الشخصية، وتستعيض بعض الدول العربية عن الإطاحة المباشرة السافرة بعباس، من خلال إدخال وكيلها دحلان في قيادة فتح من جديد.
لكن طالما أن ذلك لم يتحقق، من خلال ما أبداه عباس من عناد غير متوقع، في وجه كل تلك الضغوط الداخلية والخارجية، فإن الطريق قد تبدو معبدة أمام دحلان وبعض العواصم العربية للذهاب إلى القوة الخشنة في إقصاء عباس، حتى لو تم ذلك من خلال شق عصا الطاعة، والذهاب بعيداً نحو انقسام فتح وانشطارها، فهل الأمر ممكن؟
لا يعتبر مسلسل الانشقاقات التنظيمية غريباً على فتح منذ تأسيسها قبل أكثر من خمسين عاماً، فقد عرفت الحركة محاولات انقسامية، نجح بعضها، وتم إجهاض بعضها الآخر، وربما منحها ذلك خبرة تنظيمية لا بأس بها في التعامل مع هذه المحاولات، التي تكون بالعادة مدعومة من قوى إقليمية عربية وازنة.


هذه المرة توجد عوامل مشتركة وفوارق واضحة للانشقاقات السابقة، مما يدفعنا للحديث عن أهمها:
1ـ تحوز قيادة فتح الرسمية اليوم ممثلة بعباس على فتور في علاقاتها، إن لم نقل عداءً ظاهراً، مع عدد من العواصم العربية المؤثرة، بدءاً بالقاهرة مروراً بعمّان وانتهاء ببعض عواصم الخليج العربي، وهو ما قد يدعم التوجهات المتنامية لإيجاد "فتح" جديدة، يتزعمها دحلان.
2ـ ذاته دحلان، لديه مقدرات يعتقد أنها تؤهله لإيجاد "فتح جديدة"، أولها المال، وثانيها الولاء التنظيمي، وثالثها "الحرد" من عباس، وربما رابعها الدعم العربي والدولي، مع العلم أن بعض الفلسطينيين يعتبرون دحلان أنه الممسك بمفاتيح رفع الحصار عن قطاع غزة في ظل علاقاته الوثيقة مع القاهرة، الراغبة وفق بعض أجنحة نظام الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، بتصديره إلى رأس القيادة الفلسطينية.


3. أداء عباس التنظيمي يمنح دحلان وقودا داخليا عز نظيره، لاسيما في غزة، فالأول لا يتوانى لحظة واحدة عن إلحاق الأذى بفتح في القطاع، فضلا عن إهمال غزة بأسرها منذ بدء الانقسام.
فالناظر إلى نتائج انتخابات اللجنة المركزية لفتح يرى أن غزة ممثلة بواحد من 18 عضواً، في حين أن المجلس الثوري للحركة ضم عدة أعضاء من غزة لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة من أصل 80 عضوا، مع أن غزة تعتبر المنبع والمورد الأساسي لكوادر فتح التنظيمية، سابقاً وحالياً، وهو ما دفع عناصرها وكوادرها لإبداء التذمر من إقصائهم بهذه الطريقة الفجة.
4ـ هناك سبب بيولوجي يتعلق بمدى قدرة عباس على البقاء حياً يرزق للسنوات الخمس المقبلة، حيث حصل على مبايعة جديدة من مؤتمر فتح بأن يتزعمها، خلال السنوات المقبلة، فالرئيس ابن الـ81 عاماً، ويعاني من عدة أمراض، ورغم أنه أبدى خلال المؤتمر قوة بدنية لافتة، لكنه يرجح ألا يكون استثناء من متوسط أعمار الرؤساء والزعماء.

الدور الإقليمي
هذه العوامل وسواها قد تمنح دحلان فرصة يرى أنها ذهبية لإيجاد فتح جديدة، رغم وجود عوامل شد وإحباط لا يمكن الاستهانة بها، ومن أهمها:
1ـ الصورة النمطية التي يحتفظ بها الرأي العام الفلسطيني لدحلان، على أنه رجل أمن يرتبط بشبكة علاقات أمنية استخبارية مع عدد من المخابرات المحلية والإقليمية والدولية، وهو أمر قد يدفع الفلسطينيين إلى النفور منه، في هذا الجانب على الأقل، ويخشون مما قد يحمله دحلان من مخططات له، ولمن يقف خلفه، سواء بملاحقة المقاومة المسلحة، أو فرض أجندات إقليمية ودولية، تمهد الطريق للتخلص من القضية الفلسطينية، مع العلم أن عباس ليس بعيداً عن مثل هذه الهواجس والمخاوف.
2ـ معاناة الفلسطينيين التي امتدت قرابة الأعوام العشرة من انقسام فتح وحماس، جعلتهم ينظرون بتوجس كبير تجاه أي محاولة لشق ما تبقى من الصف الفلسطيني المتهالك أساساً، فكيف بهم والحال سيكون فتح دحلان وفتح عباس، وهو ما سيعني بالضرورة تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ، وهو ما قد يكبح جماح أي محاولة جديدة للخروج على التنظيم الفتحاوي القائم اليوم، وما فيه من عيوب وثغرات.
3ـ حالة عدم الاستقرار الإقليمي السائدة في المنطقة، تجعل أحداثها تعيش سيولة سياسية غير مسبوقة، وهو ما يتعلق بالحاضنة العربية لما قد يعتبر مشروع "فتح الجديدة"، تحديداً في مصر، التي تتصدر مشروع معاداة عباس واحتضان دحلان.



فماذا لو أن الوضع السياسي الداخلي في القاهرة لم يستقر على حاله، وهو أمر محتمل ووارد، هنا قد يفقد دحلان سنداً وداعماً قد لا يتكرر، وبهذا تضيع فرصة العمر له، مما يجعله يجري سباقاً مع الزمن قبيل حدوث أي طارئ غير محمود بالنسبة له.

ربما يبدو لافتاً أن يستسلم جزء من الإقليم العربي لما أفرزه مؤتمر فتح من تثبيت زعامة عباس، وإقصاء دحلان، وهو ما قد يعني أن حراكاً إقليمياً ما قد تشهده الأيام والأسابيع القادمة باتجاه فتح، سواء العودة مجدداً لمصالحة داخلية، بين عباس ودحلان، وهذا قد يكون مستبعداً، أو التسليم بما أفرزه مؤتمر فتح، وطي صفحة دحلان، وهو سيناريو ربما يكون أكثر استبعاداً، أو منح دحلان قوة دفع جديدة، داخلية فلسطينية أو خارجية عربية ودولية، وهو خيار قد يكون مرجحاً.
لا يمتلك أحد من طرفي الخلاف داخل فتح، بوليصة تأمين، حول فرص نجاحه، وتغلبه على الفريق الآخر، في ضوء وجود نقاط قوة وضعف لكل منهما، لكن التطورات الميدانية الداخلية في الأراضي الفلسطينية، والمفاعيل السياسية الجارية خارج الحدود الفلسطينية، وتحديداً في دول الجوار، قد تكون بيضة القبان، في ترجيح كفة فريق على آخر، وهو ما قد يشهده قادم الأيام.

(رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الأمة/غزة)