ليسوا ملائكة... لكنهم يحترمون شعوبهم

23 يناير 2019
الشعب في مصر لا يعرف مصادر تمويل الإنشاءات(فرانس برس)
+ الخط -
دخل الإغلاق الحكومي الأميركي الجزئي شهره الثاني وما زال الرئيس الأميركي دونالد ترامب متمسكاً بموقفه ومصراً على توفير مبلغ يزيد عن خمسة مليارات من الدولارات لبناء الجدار العازل على الحدود مع المكسيك لمنع الهجرة غير الشرعية، بينما يرفض الديمقراطيون في الكونغرس منحه المبلغ، ويطلبون توفير حلول أكثر فاعلية وأخلاقية للمشكلة. ومع استمرار العناد بين الطرفين، يئنّ مئات الآلاف من موظفي الحكومة، الذين يعملون بلا أجر، أو الذين فُرِض عليهم البقاء في منازلهم، لحين استئناف الحكومة عملها.

وبينما وُعد أصحاب الفئة الأولى الحصول على أجورهم فوراً عند الوصول إلى اتفاق يسمح بتوفير الأموال اللازمة لفتح الحكومة مرة أخرى، يعرف المنتمون للفئة الأخيرة أنهم عاطلون في الوقت الحالي، وأن ما يضيع عليهم الآن لن يحصلوا عليه في أي وقتٍ آخر، وأن أقصى ما يطمحون إليه هو عودتهم مرة أخرى إلى العمل قريباً عند اتفاق الطرفين.

ورغم تعاطف الكثير من الشركات الكبرى في الولايات المتحدة مع المتضررين من موظفي الحكومة بفعل الإغلاق، ومحاولاتهم المساهمة ولو بالقليل لتقليل معاناة هؤلاء، فمن الواضح أن هؤلاء الموظفين يعانون بصورة كبيرة في الوقت الحالي، من ناحية بسبب تعدد الفواتير التي يتعين عليهم دفعها، وما تمثله من ضغوط مالية قد لا تسمح ظروف الكثيرين منهم بالتعامل معها، ومن ناحية أخرى بسبب الضغوط النفسية التي يتسبب فيها عدم معرفة ما ستسفر عنه الحرب الدائرة حالياً بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، من استمرار إغلاق الحكومة أو إعادة فتحها، والتأثير المتوقع على المستقبل الوظيفي للموظفين المنكوبين.

وبقدر ما يظهر لنا من الأزمة الحالية من قوة البناء الديمقراطي في الولايات المتحدة، حتى أن رأس السلطة فيها لا يستطيع الانفراد باتخاذ قرار باعتماد إنفاق اضافي لا تتجاوز قيمته 4 مليارات دولار، حيث سبق أن وافق الكونغرس على حوالي 1.3 مليار دولار فقط من قبل، من إجمالي نفقات تجاوزت 4 تريليونات دولار في آخر سنة مالية، وهو ما يعني منع ترامب من الانفراد بقرار زيادة الإنفاق في ما يقل عن واحد بالألف من تلك النفقات، فإن هناك بعض الوجوه الأخرى التي يمكن رؤيتها للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بوضوح خلال تلك الأزمة.

أول هذه الجوانب؛ النظرة المتعالية لترامب، والتي كانت واضحة في ضغطه للحصول على ما يطلبه من أموال من خلال الإغلاق الحكومي، متجاهلاً ما يسببه هذا الإغلاق من ضغوط كبيرة على الموظفين الحكوميين الضحايا ممن لا ناقة لهم ولا جمل في موضوع بناء الجدار المقترح. وفي حين تزداد معاناة هؤلاء مع كل يوم إضافي يستمر فيه الإغلاق، يعلنها ترامب صريحة وبلا حياء، أنه على استعداد لمد الإغلاق شهوراً، إن لم يحصل على ما يطلبه من تمويل.

وعلى الجانب الآخر، لا يتوقع أحد أن يكون أعضاء الحزب الديمقراطي ملائكة. وإذا كنا نرى منهم الآن ما يبدو دفاعاً "أخلاقياً" عن المهاجرين القادمين إلى الولايات المتحدة، فينبغي أن ندرك أن هذا الدفاع ليس بريئاً تماماً كما يحاول أعضاء الحزب الديمقراطي تصويره لنا، وإنما يقوم في أغلبه على احتياج فئات معينة، داخل الطبقات الأغنى في الولايات المتحدة، إلى توفير العمالة الرخيصة التي تقوم بأعمال الزراعة وتنظيف الشوارع والتخلص من القمامة وتصليح وقيادة السيارات ودهان المنازل، وغيرها من الوظائف الشاقة منخفضة العائد، والتي يرفض عادة الأميركيون، أو الحاصلون على الإقامات الشرعية في الولايات المتحدة، القيام بها، إلا مقابل أجور شديدة الارتفاع.

وليس أدل على ذلك من حقيقة أن الأميركي الذي يقدم خدمة التنزه بالكلاب يحصل على أجر يصل إلى مائتي دولار في الساعة، بينما لا يتجاوز الأجر الذي يحصل عليه المهاجر القادم من أميركا اللاتينية، غير المستقر قانونياً، عشرة دولارات فقط للساعة، عند تقديمه الخدمة نفسها.
وبالإضافة إلى الاستفادة المادية من تدفق المهاجرين، لا يخفى على أحد أن جزءاً هاماً أيضاً من موقف الديمقراطيين الحالي من التمويل المطلوب لبناء الجدار هو نتيجة للعناد السياسي بين الحزبين، ومحاولة الديمقراطيين استغلال سيطرتهم الحالية على مجلس النواب لعرقلة خطط ترامب الهادفة لنيل رضا الناخب الأميركي.

ومع أخذ هذه النقاط في الاعتبار، فإن ما يهمنا في أزمة الجدار الأميركية هو ما نلحظه من دورٍ تقوم به مؤسسات الدولة، وتحديداً السلطة التشريعية، في الرقابة على كل ما يتم إنفاقه من أموال دافعي الضرائب، حتى لو كان بطلب أو توجيه رئيس الجمهورية، الذي انتخبته الأغلبية. 

فكل دولار تنفقه الإدارة الأميركية من الأربعة تريليونان معروف أين أُنفق، ومن أمر بإنفاقه في هذا الغرض، ومن أين تم تدبيره، وكلها أمور بديهية، يعرف المواطن الأميركي أن من حقه الاطلاع عليها ومعرفتها بالتفصيل إن أراد، وهو ما لم نعهده للأسف في كثير من بلداننا العربية.

يحزن المرء كثيراً وهو يتابع ما يجري من محاسبة وتدقيق على نفقات الإدارة الأميركية، بينما نرى "الإنجازات المتتالية" من إنشاءات ضخمة في بلادنا، يعجز الكثيرون عن معرفة كيفية تمويلها، أو مدى جدواها اقتصادياً، ولا يصل إلينا إلا تأكيدات المسؤولين المتتالية بأن ميزانية الدولة لم تتحمل جنيهاً واحداً فيها!

تسعدنا جميعاً الصور التي تصل إلينا من مصر، يوماً بعد آخر، والتي يظهر فيها حجم الإنجازات الضخمة التي تتم في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة. لكن، أليس من حق الشعب أن يعرف مصادر تمويل تلك الإنشاءات؟

المليارات التي تصرف هناك تفرض وجود جهات لمراقبتها، والمحاسبة لمعرفة إن كان الإنفاق تم على النحو الأمثل أم لا، وكذلك لمعرفة إذا كانت هذه المشروعات تمثل أولوية في الوقت الحالي أو أن ربما قضايا أقل أهمية عند صانعي القرار، كالتعليم والصحة والبحث العلمي، تستحق ولو قدراً يسيراً من هذه الأموال.

المساهمون