ليبيا ؛ ثقافة ما بعد الثورة

30 ديسمبر 2014
+ الخط -
استطلع ملحق الثقافة لصحيفة العربي الجديد، آراء طائفة من المثقفين الليبيين لسبر واقع الثقافة في بلد ثار على الاستبداد الدموي، لكنه لمّا يقطف ثمار ثورته بعد. فهل تنجح الفنون من شعرٍ وموسيقى وتشكيلٍ ومسرحٍ وتصويرٍ وسينما ودراما وصحافةٍ في مجابهة حال الفوضى المعمّمة، والتيّارات الفكرية المتطرّفة وعدم الاستقرار الأمني، الذي تعيشه ليبيا منذ ما يقارب الأربع سنوات؟ لتخلقَ حالة من "المقاومة الثقافية" رغم ضعف حضور المثقف وخجل النشاطات التي تحتاج الدعمين الأمني والمادي؟
ثمّة أنشطة قليلة في ليبيا، قامت بها جهات ثقافية مثل؛ جريدة "ميادين"، ومنظمة آريتي وآركنو، وجمعية أصدقاء اللغة العربية، ومهرجان الكتب المستعملة، وبعض المسرحيّات التي شاركت في تظاهرات ثقافية خارج ليبيا وحصدت الجوائز.
وثمّة أيضًا بعض الكُتّاب هنا، يكتبون نصوصًا شعرية وقصصًا وروايات ومسرحيات وأفلام، رغم التفجيرات والاغتيالات. مع ذلك فإن الفوضى السائدة كانت الوصف الذي استعملته رئيسة مختبر السرديات والدراسات النقدية في جامعة طرابلس الدكتورة فريدة المصري: "حالة الفوضى، يتبعها فوضى في التفكير وفي السلوك، وبالتالي فإن الثقافة تأتي في آخر قائمة الأمور التي يفكّر فيها المواطن، إذ هو مشغول بأمور أخرى مثل الأمن والاستقرار ومتطلبات الحياة اليومية، ناسيًا أن الثقافة هي أهمّ ما يحقق الأمن والاستقرار، من حيث هي تدعو إلى السلم والرقي بالحياة الإنسانية".
بينما يقول الشاعر والروائي سالم العوكلي: "لا أعرف ما هو المقصود بالحراك الثقافي. فإذا كان المقصود، المهرجانات والندوات الثقافية والمعارض الفنية والثقافية ونشر الكتب والمسرح وغيرها مما يقع تحت مسمّى الثقافة، فالتأكيد تأثّرت كلّها بشكلٍ كبيرٍ، إذ إن هذه الأنشطة تحتاج إلى ثلاثة أمور: عمل إداري ودعم مادي واستقرار أمني. وهي كلّها غير متوفرة في البلد اليوم، بل إن غيابها يسبب إرباكًا للمجتمع برمّته، سواء في قطاعاته الخدمية أو التنموية، فما بالك بالحراك الثقافي، إذ هو يأتي في آخر اللائحة؟". ولاحظ العوكلي تراجع النشاطات الثقافية منذ عام 2013، وضعف المساهمة الثقافية لمؤسسات المجتمع المدني، مقارنة بعام 2012 الذي شهد حراكًا لا بأس به من معارض وندوات ومهرجانات.
وقد نشأت في طرابلس "حركة تنوير" وهي حركة ليبية اجتماعية ثقافية توعوية لا تعنى بالسياسة، مدنية تؤمن بأن المعرفة هي الحل للنهوض من جديد، وتهدف إلى "إعادة صياغة العقل الليبي، ومساعدته في الخروج من قصوره الذي اقترفه في حقّ نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر" ويقول أحد مؤسسيها الروائي أحمد البخاري: "أنا كأحد مؤسسي حركة تنوير، أقول إن الحركة عانت كثيراً وما زالت تعاني من أجل إقامة حراك ثقافي آمن، إذ ألغيت أكثر من مرّة نشاطات ثقافية بسبب الوضع الأمني للبلاد، والأجواء العامة غير المناسبة لإقامة نشاطات ثقافية سواء تنظيميًا أو ماليًا، بل إن نشاطاتنا الثقافية تتمّ في جوٍ من التهديد والاغتيال السياسي والفكري، إنها أجواء غير مشجعة على النقاش وتبادل الآراء. أمّا الدولة فهي عاجزة تماماً عن تقديم أي مبادرات ثقافية أو حتى مساعدتنا لوجستيًا في مبادراتنا، بل إنها، على العكس، تنصحنا بعدم فعل شيء في هذه الأجواء المضطربة، قائلةً إن الأولوية ليست للثقافة! زد على هذا، عدم وجود أماكن لإقامة أي نشاطات ثقافية أو حراك ثقافي. فالأماكن القليلة المتبقية، تُعامل باعتبارها مصالح حكومية، أمّا أصحاب الفكر، فخائفون من الرصاصة التي تخترق الجمجمة!".
ويعتقد المترجم عطية الأوجلي أنه كان بإمكان الثقافة أن تكون أحد مخارج المأزق الليبي، فيما لو تمتّعت النخب الحاكمة بنظرة ثاقبة، وأدركت أهمية الثقافة، وأن جذور الأزمة في ليبيا، تتعلّق بمنظومة القيم السائدة والموروثة عن قرون من التخلّف وعقود من الاستبداد. ولكن للأسف، اقتصر العمل على الاحتفالات والمشاركات المعتادة، والإنفاق المعهود، أي الأمور التي لم تغير شيئًا من واقع ثقافي طال ركوده. ليبيا تعاني من سيطرة مفهوم الغلبة والتعامل مع الدولة من مفهوم الغنيمة وتغليب الانتماءات الجهوية والقبلية على المصلحة الوطنية والافتتان بالقوّة. كلّ هذه المفاهيم، تعبير عن ثقافة بحاجة إلى التغيير عبر أطروحات تعزز قيم الحوار والتسامح والتفاوض والسلام واحترام القانون. ليبيا بحاجة إلى نقاش جاد وناضج وموضوعي يبتعد عن منطق "عركة الشارع" ومفهوم الغلبة وقهر الخصوم. نحن بحاجة إلى رؤية ثقافية تتجاوز تحديد الثقافة في المهرجانات وصرعة العواصم الثقافية والنشاطات التقليدية. لن نستطيع تغيير واقعنا ما لم نغيّر تفكيرنا ووسائلنا ونتعلّم من تجارب الأمم التي سبقتنا قبل فوات الأوان".
وإن كانت الآراء السابقة تميل نحو التنظير إلى حدّ ما، فإن القاص جمعة بوكليب أعاد جذور الأزمة إلى العهد السابق: "الحقيقة تستوجب مني التعامل مع أسئلتك بصراحة. أذكّرك أن المشهد الثقافي الليبي يتسمّ عمومًا بالركود واللا مبالاة منذ أمدٍ بعيد، ويفتقد إلى المبادرات، هو مثل الفرن يسخن بسرعة ويبرد بسرعة أكبر. فقد اعتاد المثقفون الليبيون على مبادرات الحكومة، ممثلةً في وزارات الإعلام والثقافة وإدارات النشر. هم لا يتحركون ويبادرون إلا في حالات نادرة. المشهد الثقافي في حالة سبات منذ أربعين عامًا ونيّف، وما زال على ما كان عليه. وكلّ ما يهمّ المثقف الليبي، أن يكون اسمه في قوائم المدعوين لحضور معارض الكتب بالخارج، وباستثناء قلّة قليلة أحترمها، فإن أغلب المثقفين يفضلون الجلوس في المقاهي على القيام بمبادرات ثقافية. إنهم كما كانوا، لا يجيدون سوى النقد والشتم وشرب القهوة والشاي بانتظار أن تصلهم دعوة من وزارة الثقافة الليبية أو غيرها من وزارات الثقافة العربية أو الأجنبية. ليس منصفًا وضع اللوم في جمود الحراك الثقافي الليبي، على الأحداث وحدها، إذ إن الساحة الثقافية الليبية كانت - إلا في ما ندر- راكدة وحركة النشر راكدة، وما تنشره وزارة الثقافة يظلّ حبيس المخازن. المشكلة فينا، نحن المثقفين، إذ اعتدنا الاسترخاء وترك الأمور بيد موظفي وزارات الثقافة". هذا الرأي الواقعي، يقابله رأيٌ حالم للشاعر كمال الشلبي: "لا شكّ أن الفوضى وغياب الفاعلية القانونية للدولة، يعملان ضدّ تطلعات المثقف. لكن هذا لا يعني أن المثقف سيستسلم للحالة الراهنة، ليبقى رهينًا لفشل الدولة. بل على العكس، فالمثقف الفاعل يقفز برؤاه ومشاعره وأحلامه فوق الخراب الحاصل وتدفعه رغبة ملحّة للإصلاح. علينا كمثقفين التخلّص من عقدة الدولة عبر الانفتاح الخلاق على كلّ أوجه الحياة الممكنة. نحن واثقون أن حالة الفوضى هذه مؤقتة، وأن مصير البلاد سيتجه نحو النظام. صحيح أن الحراك الثقافي يبدو مشتتًا، ربما بسبب المنظار السوداوي الذي ينظر من خلاله بعض المثقفين للواقع. لكننا بحاجة لتطوير نوع من الرؤية الهادف لامتصاص أخطاء الإدارة السياسية، وتعرية نقاط ضعفها، واقتراح الحلول والدفع بالعملية الثقافية إلى الأمام".
في خضم هذا كلّه، يتذكّر المرء أن طرابلس سمّيت عاصمة للثقافة العربية لعام 2014، ورصد مبلغ خمسة عشر مليون دينار ليبي لهذا الحدث الذي اتفق على أن تنظمه وزارة الثقافة والمجتمع المدني، بيد أن الوزارة، وفقًا لمدير إدارة الشؤون الإعلامية بوزارة الثقافة والمجتمع المدني، عادل صنع الله، "أجّلت إطلاق الاحتفالية إلى أجل غير مسمّى بسبب عدم رصد الميزانية". في حين أفصح أحمد الهادي رشراش، عضو اللجنة التحضيرية لمناشط طرابلس عاصمة الثقافة العربية أن "الفوضى أثرت في كلّ نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، فالحراك الثقافي يحتاج توفّر الأمن والاستقرار، فالمثقف لا يستطيع ممارسة عمله في ظلّ الخوف، والأوضاع الأمنية المتردية، فضلًا عن الخوف على سلامة المشاركين من خارج ليبيا. ما زال المشروع معطّلًا بسبب الفوضى وعدم الاستقرار، حيث تمهّلت الحكومة كثيرًا في الموافقة على المقترح والميزانية نتيجة لذلك. كما أن حركة التأليف والنشر تراجعت بشكلٍ كبيرٍ. أصبح المثقّف مهمومًا ومعرّضا للاغتيال، وباحثًا عن حاجاته اليومية، خارجًا في مظاهرات ومترقبًا جديد الأحداث".
أمّا الروائي أحمد إبراهيم الفقيه فعبّر عن خيبة أمله: "خاض الليبيون ثورة انتظرنا بعدها أن تنطلق ليبيا في طريق النهوض والتقدّم والبناء والتنمية، واثقين جميعًا أن الثقافة ستحظى بالاهتمام باعتبارها رأسمال جاهز للاستخدام. فليبيا ذات ثراء ثقافي وحضاري، وفيها زخمٌ وتنوعٌ بسبب تنوع البيئة وتعدد الطبقات الحضارية، فضلًا عن امتلاكها موقعًا جغرافيًا يؤهّلها لتكون ملتقى ثقافات وحضارات، إلا أن انتكاسة مرعبة حصلت، بسبب دخول أصحاب الأجندات الأجنبية الذين، لأمرٍ غامضٍ، سعوا لتسيّد المشهد السياسي الليبي، وسعوا بكلّ الطرق لمنع ليبيا من بناء جيشٍ قويٍ وجهازٍ أمني يعمل لصالح البلاد، التي تُركت للمليشيات المتطرّفة. أنا آسفٌ لهذه المقدّمة غير الثقافية، التي تقودنا إلى تعطّل الثقافة تبعًا لتعطّل الحياة الطبيعية لليبيين، الذين فقدوا الأمن والخدمات التعليمية والطبية والمستوى المعيشي الراقي الذي يطمحون إليه، فكان طبيعيًا أن تتخلف الثقافة وتبقى النشاطات الثقافية في آخر القائمة لأن الاعتبار الأوّل للصحة وللأمن وللتعليم. لا أمل في أن نرى احتفالًا بعاصمة ثقافية كما كان مقررًا لطرابلس، ولا أمل في أن نرى احتفالًا ببنغازي مدينة ثقافية، لا أمل إلا بانقشاع هذه الغمّة وانتهاء هذه الضبابة السوداء".
أمّا الباحثة أسماء مصطفى الأسطى، فلها رأيٌ مخالفٌ لكل ما سبق: "ما تمرّ به ليبيا منذ أربع سنوات ليس "فوضى"، بل حالة متوقعة عقب ثورة تعثّرت طيلة ستة أشهر حتّى تحرير كامل الأراضي الليبية. وما تبعها من محاولات للتنظيم والبناء والإنشاء وإيجاد الحلول المبدئية للأولويات وضبابية الرؤى، أدّى إلى العمل في مسارين: الأوّل سعى إلى مواصلة العمل والكتابة والنتاج والمشاركة في الحراك الثقافي من خلال الندوات والنشاطات الثقافية وغيرها. أمّا الثاني فقد آثر الصمت والعزوف عن الكتابة والنشر أو حضور الأنشطة القليلة، والركون العزلة والتذمّر من كلّ ما يحيط بنا". وتقيس الباحثة الأمور من مقياس مختلف إذ ترى: "حركة النشر جيدة. فلقد صدر هذه الفترة أكثر من 150 عنوانًا لكتّاب ليبيين من بينهم من سطعت أسماؤهم في المواقع الإلكترونية المعارضة بعد أن عادوا من المهجر. وظهرت مؤلّفات تؤرخ للمرحلة السابقة، وأخرى كانت قد منعت من النشر سابقًا. حدث كلّ هذا، بلا خطّة نشر مستقبلية، وبلا معايير في التوازن بين المواضيع"
ولا تنسَ الباحثة الحديث عن تجربتها في تظاهرة طرابلس عاصمة للثقافة العربية: "كنت قد تشرّفت بتلبية دعوة من وزارة الثقافة، رفقة زميلة وباحث، للسفر تطوعًا إلى تونس في مارس/آذار الماضي بهدف حضور اجتماع مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، يخص تصميم شعار "طرابلس عاصمة ثقافية". أبدت المنظمة إعجابها بالشعار، ودعت إلى أهمية إسراع الوزارة في "إطلاق" العاصمة رسميًا، ولو من خلال معرض فنون أو أمسية شعرية. إذ لا ينبغي أن تطلقها إحدى مؤسسات المجتمع المدني. كنا نعتقد بأننا قد ننال العون في تأسيس وإنشاء صروح ثقافية بمساعدة المنظمة. قدّمنا تقريرًا بذلك للوزارة. والآن انتهى العام ولا نتوقع تحقيق شيء. ولكني آمل أن نسعى إلى إنشاء المرافق الثقافية والمكتبات والمسارح أولاً، وأدعو مؤسسات المجتمع المدني للقيام بدورها الثقافي الحقيقي".
المساهمون