لو تولّى التكنوقراط الحكم مجدّداً في لبنان
أعلن رئيس الوزراء اللبناني، حسّان دياب، في 10 أغسطس/ آب الحالي، استقالة حكومته إثر انفجار مرفأ بيروت. وأفاد، في كلمة وجهها إلى الشعب اللبناني، بأن منظومة الفساد في لبنان أكبر من الدولة، وأن أشكالاً عديدة من الفساد موجودة في مفاصل عدة، وأن انفجار المرفأ أحد أشكال الفساد الذي تعاني منه البلاد. وحمّل، في كلمته، الطبقة السياسية الحاكمة مسؤولية هذا الفساد المتجذّر، من دون أن يوجه أصابع الاتهام إلى أيٍّ من الأطراف السياسية. وكان دياب، وهو أستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، قد جاء إلى السلطة مطلع العام الحالي، في حكومة وُصفت بأنها تكنوقراط، ضمت 20 وزيراً معظمهم من الخبراء والمختصين والأكاديميين، وبأولويات معالجة الوضعين، الاقتصادي والمالي، والسعي إلى الحصول على منح ومساعدات مالية.
سبق أن استعان اللبنانيون بحكومات تكنوقراط بعد اتفاق الطائف عام 1989. ومنذ ذلك الحين، توالت على لبنان 16 حكومة، ثلاث منها عُدّت حكومات تكنوقراط صِرفة، هي حكومة حسان دياب (يناير/ كانون الثاني – أغسطس/ آب 2020)، وسبقتها حكومتا سليم الحص (1998- 2000) ونجيب ميقاتي (إبريل/ نيسان – يوليو/ تموز 2005)، وقد جاءتا نتيجة توافق سياسي بين القوى والأحزاب السياسية اللبنانية، وبتفاهم دولي وإقليمي بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والسعودية وإيران وسورية، وظلّت تُعدّ حكومات تكنوقراط مدعومة من أطراف سياسية، وتحكم فترة مؤقتة وبصلاحيات محدودة، مثل التحضير لانتخابات نيابية مبكرة، وارتبطت كذلك بفترات سياسية صعبة مرّت على لبنان، مثل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، النائب في حينه رفيق الحريري، عام 2005، وقد حدث هذا تحديداً مع حكومة ميقاتي.
التكنوقراط في النظام السياسي الطائفي لا يُعدّ أداة للحكم وإيجاد حلول وبدائل سياسية وسياساتية للأزمات
أما تجربة دياب وحكومته في السلطة، فتشير إلى حجم التعقيدات الراهنة للمشهد السياسي والاقتصادي اللبناني. بعد أربعة أيام على انفجار المرفأ، بدا واضحاً أن دعوة دياب إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة، من أجل إنتاج طبقة سياسية جديدة ومجلس نيابي جديد، قد عجّلت باستقالة الحكومة أو إقالتها، وهو وصفٌ أفضل للتعبير عن شكل استقالة دياب وحكومته. وقد حفّزت هذه الدعوة قوى التيار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله، التي وفرت حصانة سياسية لدياب وحكومته، طوال الأشهر السبعة الماضية، على التعجيل باستقالة الحكومة. وقد عَدَّت هذه القوى، ولا سيما حزب الله، تصريحات دياب تعدياً على التفاهم السياسي الضمني بينها وبين رئيس الحكومة. وصدرت مطلع يوليو/ تموز الماضي دعواتٌ سابقة من نواب محسوبين على التيار الوطني الحر وحركة أمل، طالبت بإسقاط الحكومة، إلا أن تمسّك حزب الله بدياب وحكومته منحها فرصة البقاء في السلطة. وعلى الجهة المقابلة، ظلت هذه الحكومة، منذ اليوم الأول لتشكيلها، تعاني من ضغوط جمّة من أجل الاستقالة بضغط من قوى تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية والحزب التقدّمي الاشتراكي وحزب الكتائب، وذلك بسبب دعمها من قوى سياسية معارضة لها، وعدم قدرتها على إيجاد حل للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وعدم قدرتها على وقف الانهيار المالي. وما عزّز من أهمية ضغوط تيار المستقبل وحلفائه، شعور الحكومة بالعزلة الدولية، وتعثّر حصولها على منح ومساعدات مالية.
تجربة دياب وحكومته في السلطة تشير إلى حجم التعقيدات الراهنة للمشهد السياسي والاقتصادي اللبناني
على الرغم من ذلك، من الصعب تقييم ما إذا كانت هذه المؤشرات كافيةً لتعكس نيات الطبقة السياسية تجاه شكل الحكومة القادمة وطبيعتها، بمعنى إن كانت تكنوقراط أو سياسية أو تجمع سياسيين وتكنوقراط أو عسكرية. وبغضّ النظر عن ذلك، تعكس الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ورثتها حكومة دياب عن سابقاتها، وعدم نجاحها في معالجة أيٍّ من هذه الأزمات، التعقيد الذي وصل إليه المشهد اللبناني، ما يفيد بأن الطبقة السياسية قد تفكر في التوافق على حكومةٍ أولوياتها الرئيسة جذب منح ومساعدات مالية، وفكّ العزلة الدولية، وإجراء إصلاحاتٍ في النظامين، المالي والاقتصادي، وذلك لحماية نفسها من التورّط في دفع لبنان إلى السير في طريق الفشل. وقد تكون هذه الظروف حافزاً للتوافق على حكومة تكنوقراط صِرفة أو حكومة تكنوقراط أكثر وسياسيين أقل، بشرط عدم تكرار محدّدات تجربة حكومة التكنوقراط التي ترأسها دياب، بوقوعها فريسةً لتحكّم طرف سياسي على حساب طرفٍ سياسي آخر.
تعي الطبقة السياسية أن تاريخ ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ليس كما قبله، لذلك فإنها تحاول من خلال تعيين حكومات تكنوقراط، القفز على مطالب المنتفضين اللبنانيين المطالبين بإنهاء نظام الطائفية السياسية وإسقاط الطبقة السياسية الحاكمة، من خلال عملية إعادة تدوير نظام المحاصصة السياسية الطائفية الفاسد بترويج التكنوقراط. على اعتبار أن المنتفضين في هذه اللحظة المصيرية باتوا مُصرّين أكثر على ضرورة خروج الطبقة السياسية من السلطة، ومن الممكن لهم أن يقبلوا بوزراء تكنوقراط أو مستقلين، بوصفهم من خارج الطبقة السياسية الحاكمة.
منذ اتفاق الطائف عام 1989 توالت على لبنان 16 حكومة، ثلاث منها عُدّت حكومات تكنوقراط صِرفة
زِد على ذلك أن القوى واللاعبين الإقليميين والدوليين يرون في تعيين حكومة تكنوقراط مخرجاً لأزمات لبنان السياسية والاقتصادية، حيث بدأت فرنسا أخيراً بحثّ القوى والفصائل السياسية على تشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط، أولوياتها الرئيسة تنفيذ إصلاحاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ ومالية، تساهم في استعادة ثقة المواطنين، وإقناع المانحين بصرف منح ومساعدات مالية. ويقود الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون؛ الذي هرول لزيارة لبنان بعد انفجار المرفأ، محادثات مهمةً مع إيران والسعودية، لحثّهما على إخراج لبنان من صراع المحاور الإقليمية، وضرورة البدء بتنفيذ إصلاحات سريعةٍ وملحة. ويسعى ماكرون إلى إقناع إيران تحديداً بضرورة قبول القوى السياسية القريبة منها بتعيين حكومة تكنوقراط، إذ تميل قوى التيار الوطني وحركة أمل وحزب الله إلى تعيين حكومة وحدة وطنية. وعلى العكس، تميل القوى السياسية القريبة من السعودية إلى خيار تعيين حكومةٍ من خارج الاصطفافات السياسية، بوصفها مدخلاً للقيام بالإصلاحات الاقتصادية والمالية المطلوبة دولياً، والانفتاح على العالم لفكّ عزلة لبنان الدولية. والحال نفسه، مع الولايات المتحدة، التي تشترط تعيين حكومة تكنوقراط غير محسوبة أو مدعومة من طرف سياسي، يترأسها خبير لبناني مرموق له وزنه الإقليمي والدولي، وذلك في حال رغب لبنان في الحصول على منح ومساعدات مالية دولية. وكان حسّان دياب قد تعثّر في مشاوراتٍ عديدة للحصول على منح ومساعدات من دول ومنظمات دولية، جديدها تعثّر مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي في مايو/ أيار الماضي، بعد أن تخلفت الحكومة عن سداد ديون سيادية بالعملة الأجنبية.
تبدو الطبقة السياسية منفتحةً على خياراتٍ أخرى، شرط أن تضمن لها المحافظة على السلطة
ومع ذلك، تبدو الطبقة السياسية منفتحةً على خياراتٍ أخرى، شرط أن تضمن لها المحافظة على السلطة. ثمّة ترشيحاتٌ ترجّح التوافق على حكومة وحدة وطنية، تضمّ وزراء من جميع القوى السياسية، وهذه التركيبة تبقى قائمة، إلا أن مبرّرات رفضها أسرع وأكثر منطقيةً من مبرّرات مناقشتها، ليس أقلها عدّ هذه الحكومة استنساخاً جديداً لحكومات المحاصصة الطائفية. وثمّة ترشيحاتٌ ترجّح التوافق على حكومة عسكرية، ولفترة انتقالية وبصلاحيات استثنائية، بشرط أن تضمن التوافقين، الداخلي والخارجي، إلا أن قبول هذا النوع من الحكومات يبقى محفوفاً بالمخاطر، ولا سيما أن ظروفاً عدة معلومة للقوى والدول، داخل لبنان وخارجها، جعلت نفوذ التيار الوطني الحر وحزب الله أقوى داخل المؤسسة العسكرية، مقارنة بنفوذ غيرهما من القوى السياسية، الأمر الذي قد يعطّل هذا التوجه. ولذلك، يبقى الطرح الأكثر قبولاً داخل لبنان وخارجه، التوجه إلى حكومة تكنوقراط أو حكومة تجمع تكنوقراط أكثر وسياسيين أقل، وغالباً لن تعارض هذه القوى التوافق على تعيين شخصية سياسية مقبولة، داخلياً وخارجياً، كرئيس للوزراء، على أن يترأس مجلساً من خبراء تكنوقراط.
بهذا المعنى، أي الذهاب إلى حكومة تكنوقراط، أو حكومة تجمع بين تكنوقراط وسياسيين، سيكون تحالف التيار الوطني الحر وحزب الله مضطراً إلى التنازل عن جزء مهم من السلطة السياسية. ومن الممكن لهما القبول بوزارات ثانوية، لا تتواءم وقوة التحالف ووزنه وداعميه على المستويين، المحلي والإقليمي. وإذا لم تُفرض انتخاباتٌ نيابيةٌ مبكّرة، بوصفها مخرجاً حاسماً لتغيير الطبقة السياسية، فسيكون تنازل التحالف عن السلطة مؤقتاً، وبالتالي يضمن هذا لهما الحضور في السلطة، بغضّ النظر عن وزن الحضور الذي يمكن تعويضه من خلال التوازنات والتحالفات السياسية. هذا هو الأساس الذي اعتمده حزب الله منذ دخوله إلى السلطة في لبنان مطلع تسعينيات القرن العشرين. وبسبب المزاج العام داخل لبنان وخارجه ضد التيار الوطني الحر وحزب الله، قد يكون هذا التغيير مخرجاً يضمن عدم إلقاء اللوم عليهما، بوصفهما القوى السياسية المتحكمة بالسلطة في أثناء وقوع انفجار المرفأ. وتشترك قوى المعارضة السياسية، ولا سيما تيار المستقبل بالاعتقاد نفسه، إذ لا رغبة جامحة لهذه القوى لتصدّر المشهد السياسي والسيطرة على مفاصل السلطة في الوقت الحالي، نتيجة أزمة الثقة الداخلية والخارجية بالطبقة السياسية. بهذه الطريقة، تضمن جميع القوى السياسية خروجاً آمناً ومؤقتاً من السلطة من دون المحاسبة والإبعاد الدائم، مع ضمان بقاء جزئي لها في المشهد السياسي بتعيين وزراء تكنوقراط مقرّبين ومحسوبين عليها، بينما يبقى لبنان يعاني من أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وإذا حدث هذا، فنحن أمام إضافةٍ مهمةٍ إلى أدبيات التكنوقراط، مفادها أن التكنوقراط في النظام السياسي الطائفي لا يُعدّ أداة للحكم وإيجاد حلول وبدائل سياسية وسياساتية للأزمات التي يعاني منها البلد، بل أداة للمحافظة على استمرار الطائفية السياسية، وإطالة عمرها، وتعزيز نفوذها ومصالحها، وحماية طبقتها السياسية والاقتصادية والمالية، وتبرئتها من الفساد والإهمال والفوضى والفشل، حين تكون مسؤولة عن ذلك كله.