عندما تسعى إسرائيل إلى تشغيل الفلسطينيين في شركات التكنولوجيا المتقدّمة
صرّح رئيس وزراء حكومة نظام الاستعمار الإسرائيلي، نفتالي بينت، في كلمة عبر تقنية المؤتمر عن بُعد بالمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في سويسرا، في 18 يناير/ كانون الثاني الحالي، إنه سيسمح للفلسطينيين بالعمل في شركات التكنولوجيا المتقدّمة الإسرائيلية. وجاء هذا التصريح بعد أكثر من شهرين على مصادقة حكومة بينت على تشغيل تجريبي لنحو 500 عامل فلسطيني في شركات التكنولوجيا المتقدّمة في السنوات الثلاث المقبلة، على أن يتضاعف العدد في السنوات التي تليها إلى أكثر من 1500 عامل.
اعتمد نظام الاستعمار الإسرائيلي، منذ نشأته في خمسينيات القرن الماضي، على التكنولوجيا المتقدّمة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي السنوي من جهة، وتعزيز نظامه الأمني من جهة أخرى، مستفيدًا من المهاجرين اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين المحتلة بعد نكبة الفلسطينيين عام 1948، وساهموا في تعزيز الاستثمار في التكنولوجيا والتكنولوجيا المتقدّمة، ولا سيما في قطاعات البرمجيات والبحث والتطوير والسلع. وفي السنوات الأخيرة، شهدت شركات التكنولوجيا المتقدّمة نموًا ملحوظًا ظهر مع نمو مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، الذي ارتفع من 10% عام 2004، ليصل إلى 17% عام 2019، وبرقم قياسي يبلغ نحو 45.8 مليار دولار، أي حوالي 46% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية. فضلًا عن العوائد المالية، يستغل المستعمِر الإسرائيلي تطوّره التكنولوجي ليبقى مصدرًا رئيسًا للتكنولوجيا المتقدّمة في العالم (الأمنية تحديدًا)، وليعزّز من ثروته المعلوماتية الأمنية عن حكومات وساسة وصناع سياسات ونشطاء بلدان عدة.
تشغيل الفلسطينيين في التكنولوجيا المتقدّمة شكل جديد من أشكال خنق الاقتصاد الفلسطيني وتكريس تبعيته
أما عن تشغيل الفلسطينيين في التكنولوجيا المتقدمة فلم يحدث فجأة. إنه شكل جديد من أشكال خنق الاقتصاد الفلسطيني وتكريس تبعيته لاقتصاد نظام الاستعمار الإسرائيلي، المستمر منذ نهاية ستينيات القرن العشرين. ولفهم خنق الاقتصاد الفلسطيني، تجب العودة إلى السياسة الاستعمارية التي بدأت في أعقاب نكسة الفلسطينيين في يونيو/ حزيران 1967، عندما بدأ الفلسطينيون في التدفق للعمل في إسرائيل ومستوطناتها. وقد تضافر عاملان رئيسان في زيادة هذا التدفق: حاجة المشروع الاستيطاني إلى توظيف العمال كي يزدهر، وحاجة الفلسطينيين الماسّة إلى التوظيف، بعد أن بات الاقتصاد الفلسطيني مدمرًا في أعقاب الحرب. وحتى مطلع تسعينيات القرن العشرين، تمكّن نظام الاستعمار الإسرائيلي من السيطرة على أهم عنصر من عناصر الإنتاج الرئيسة في الاقتصاد الفلسطيني، مجبرًا نحو 116 ألف فلسطيني على التخلي عن العمل في الزراعة التي كانت مصدرًا رئيسًا لعيش الفلسطينيين، والبحث عن فرص عمل في إسرائيل ومستوطناتها.
وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو في عام 1993 ودمج الاقتصاد الفلسطيني قسرًا بالاقتصاد الإسرائيلي، فرض نظام الاستعمار الإسرائيلي قيودًا على حركة العمال الفلسطينيين، وحدّد عدد تصاريح العمل الممنوحة لهم. ومع ذلك، زاد تدفق العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل ومستوطناتها، ولا سيما في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ومنذ ذلك الحين، ارتفع عدد العاملين الفلسطينيين في إسرائيل ومستوطناتها المسجلين رسميًا في قيود الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني من 35 ألفًا في عام 2005 إلى 145 ألف عامل عام 2021، وهذا أعلى رقم مسُجّل منذ بدء عمل الفلسطينيين في إسرائيل ومستوطناتها، علمًا أنه يُتوقع أن يكون العدد أعلى من ذلك بكثير، في حال إضافة العاملين الذين يعملون من دون تصاريح عمل، والعاملين الذين يحملون تصاريح تجار أو احتياجات خاصة لأغراض العمل.
يشلّ عمل الفلسطينيين في إسرائيل ومستوطناتها الاقتصاد الفلسطيني بشكل ملحوظ
وتأكيدًا على استمرار مسعى الحكومة الاستعمارية إلى خنق الاقتصاد الفلسطيني وتكريس تبعيته، صادقت الحكومة، في أغسطس/ آب الماضي، على منح تراخيص عمل جديدة لنحو 15 ألف عامل فلسطيني للعمل في قطاع البناء، من بينهم عمّال من قطاع غزة، في خطوة هي الأولى منذ وقف إسرائيل إصدار تصاريح العمل لقطاع غزة عقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ولكن أخذ هذا التدفق في ظاهره بوصفه تقليصًا لمعدل البطالة في فلسطين ومساعدة للفلسطينيين في إيجاد فرص عمل وتحسين ظروفهم الاقتصادية والمعيشية، كما يدّعي المستعمِر الإسرائيلي، سيكون خطأ. يشلّ عمل الفلسطينيين في إسرائيل ومستوطناتها الاقتصاد الفلسطيني بشكل ملحوظ، فنظرًا إلى تقييده حركة الفلسطينيين وتقييده تبادل المواد الأولية والسلع والبضائع داخل فلسطين وخارجها، وإيجاده فجوة كبيرة بين أجر العامل الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة مقارنة بالعامل الفلسطيني في إسرائيل ومستوطناتها، أوجد نظام الاستعمار الإسرائيلي ظروفًا أجبرت الفلسطينيين قسرًا على التخلي عن العمل في أراضيهم أو لحسابهم الخاص أو فتح مشاريع اقتصادية تدرّ دخلًا عليهم. علاوة على ذلك، أحدث نظام الاستعمار الإسرائيلي فجوة هيكلية ملحوظة في تكاليف الإنتاج بين الاقتصادين، الفلسطيني والإسرائيلي، ولصالح الأخير، ما أدّى إلى زيادة نسبة الواردات الإسرائيلية إلى الأراضي الفلسطينية، وساهم في زيادة مضطردة في عجز الميزان التجاري الفلسطيني. في حين أن تدفق العاملين الفلسطينيين للعمل في إسرائيل ومستوطناتها بغرض خنق الاقتصاد الفلسطيني وتكريس تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي لا يعد سببًا استعماريًا جديدًا، إلا أنها المرّة الأولى التي تصادق فيها حكومة إسرائيلية على تشغيل فلسطينيين في شركات التكنولوجيا المتقدّمة، علمًا أن ثمة تجارب محدودة لعمل فلسطينيين وشركات فلسطينية لدى بعض شركات التكنولوجيا المتقدّمة الإسرائيلية. وهناك أسباب أخرى يمكن سردها هنا:
أولًا، حاجة نظام الاستعمار الإسرائيلي الماسّة لتمكين التقاطع بين سياسته الاقتصادية النيوليبرالية (استعمار استغلالي) مع سياسته القائمة على الطرد والإلغاء والمحو (استعمار استيطاني). من وجهة نظر نظام الاستعمار الإسرائيلي، يجب أن يظل هذا التقاطع قائمًا لضمان ديمومة المشروع الاستعماري الإسرائيلي، نظرًا إلى غياب بديل حقيقي يضمن ذلك. وهنا يمكن فهم أطروحة "السلام الاقتصادي"، التي شهدت ذروتها في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، ويفرضها الآن نفتالي بينت، ضمن مقاربةٍ مشابهةٍ إلى حد ما ترتكز على أطروحة "تقليص الصراع"، أي التقليل من مظاهر الاستعمار من دون تفكيكه، وتقديم تسهيلات حياتية واقتصادية ملموسة، من خلال دعم السلطة الفلسطينية ماليًا وتعزيز اقتصادها، وزيادة عدد العاملين في إسرائيل ومستوطناتها، وإنشاء مناطق صناعية فلسطينية – إسرائيلية.
ثانيًا، سيكون تشغيل العاملين الفلسطينيين في شركات التكنولوجيا المتقدّمة حافزًا لها لتعويض النقص في عمالة المستوطنين الإسرائيليين من جهة، وبديلًا يعوّض تشغيل عاملين من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. ومن خلال تشغيل عاملين فلسطينيين مهرة وبتكلفة أقل من استقطاب عاملين من الخارج، ولا سيما بعد شكوى شركات التكنولوجيا المتقدّمة الإسرائيلية من التكلفة الباهظة لجلب عمالةٍ من الخارج، يضمن نظام الاستعمار الإسرائيلي تحقيق مكاسبه الاستغلالية الاستيطانية التي تضمن، وفقًا له، ديمومة مشروعه الاستعماري. ومن خلال تشغيل كفاءات فلسطينية متعلّمة، مهندسين ومبرمجين، تضمن منظومة الاستعمار الإسرائيلي استقطاب شريحةٍ جديدةٍ غير الشريحة العاملة في مجال البناء والصناعة والزراعة والخدمات في إسرائيل ومستوطناتها. ولإثبات جدوى استغلال الكفاءات الفلسطينية، يستحضر بعض ساسة نظام الاستعمار الإسرائيلي قصة نجاح الفلسطينيين في تعويض النقص الحاصل في قطاع الصحة الإسرائيلي، إذ يعمل قرابة خمسة آلاف فلسطيني من الأرض المحتلة عام 1948 من أصل أربعين ألفًا في قطاع الصحة.
ثالثًا، ضمان عملية مراقبة الفلسطينيين وضبطهم والتحكّم بهم. يحتاج الفلسطيني للعمل في إسرائيل ومستوطناتها إلى تصاريح عمل تصدُر عن سلطات الاستعمار الإسرائيلي. وتساعد هذه التصاريح منظومة الاستعمار على إدارة الفلسطينيين وضبطهم وحصرهم. مع تفشي كوفيد -19، طلبت سلطات الاستعمار الإسرائيلي من العمّال الفلسطينيين تحميل تطبيق "المنسّق"، وهو تطبيق إسرائيلي للهاتف المحمول معدّ لإدارة طلبات الفلسطينيين الراغبين في الحصول على تصاريح إسرائيلية. وتفيد تقارير حقوقية بأن التطبيق يضمن لسلطات الاستعمار الإسرائيلي مراقبة الفلسطينيين وابتزازهم واستغلالهم وإذلالهم. ومن خلال تشغيل كفاءات فلسطينية متعلمة في شركات التكنولوجيا المتقدّمة الإسرائيلية، تضمن السلطات الإسرائيلية وضع شريحة فلسطينية جديدة تحت رحمة الضبط والمراقبة الإسرائيليين.
"السلام الاقتصادي" يخدم المشروع الاستعماري فقط، حتى وإن ساهم في تحسين أوضاع الفلسطينيين المعيشية والاقتصادية مؤقتاً
المزاعم الاستعمارية القائمة على دعم الفلسطينيين وتحسين أوضاعهم المعيشية الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي تعزّزها لقاءات فلسطينية إسرائيلية، برزت، أخيرًا، مع التفاهمات المعلن عنها في لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووزير الأمن الإسرائيلي بني غانتس، أواخر الشهر المنصرم (ديسمبر/ كانون الأول)، تؤكّد أن إسرائيل اختارت مسار الاقتصاد بديلًا للعملية السياسية المؤجلة إلى أجل غير مسمى. وما يعزّز ذلك بالنسبة لإسرائيل عدم وجود ضغط أميركي لتحقيق تقدّم سياسي، لا سيما أن ملفي القنصلية الأميركية في القدس ومكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، لم يتحقق أي تقدّم فيهما، في مقابل استئناف الولايات المتحدة المساعدات الأميركية للفلسطينيين. علاوة على ذلك، عدم وجود ضغط إقليمي عربي لتحقيق تقدم سياسي، لا سيما أن اتفاقات التحالف العربي مع إسرائيل أكّدت أن لا حاجة لمسار سياسي مع الفلسطينيين في وجود علاقات عربية طبيعية مع إسرائيل. وأخيرًا، وجود قناعة إسرائيلية بوجود سلطة فلسطينية لا تعترض على هذا المسار، لا سيما أن الأخيرة تعاني أزمة مالية، وأزمة شرعية ومصداقية في نظر الفلسطينيين، وأزمة حسم الصراع الداخلي في حركة فتح على خليفة محمود عبّاس، وأزمة خوفها من أن يفضي ذلك كله إلى أن تقود حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الفلسطينيين.
في الواقع، من الواضح أن تشغيل الفلسطينيين في شركات التكنولوجيا المتقدّمة، والذي يأتي ضمن مسارٍ قديمٍ جديدٍ يعرف باسم "السلام الاقتصادي"، يخدم المشروع الاستعماري فقط، حتى وإن ساهم في تحسين أوضاع الفلسطينيين المعيشية والاقتصادية مؤقتًا. والواقع أيضًا أن هذا المسار الذي يمنح الفلسطينيين استقلالية اقتصادية وهمية، كما منحهم استقلالية سياسية وهمية سابقًا، ما كان له أن يعود اليوم تحت مسمّى "تقليص الصراع"، لولا حاجة المشروع الاستعماري لإعادة إنتاج نفسه بوصفه مشروعًا استعماريًا تتقاطع فيه النيوليبرالية الاقتصادية مع الاستعمار الاستيطاني، وهذه المرّة بأدوات اقتصادية. لا يحدث هذا بسبب شمولية نظام الاستعمار الإسرائيلي ووحشيته، بل بسبب غياب حركة وطنية فلسطينية تجابه المشروع الاستعماري، ووقوع الفلسطينيين فريسة لأولى نتائج التحالف العربي مع إسرائيل، وعدم مبالاة المجتمع الدولي بما وصل إليه المشروع الاستعماري في فلسطين.