لمن تُدق الأجراس؟

01 يوليو 2015

همنغواي مراسلا في الحرب العالمية الثانية 1944(Getty)

+ الخط -
لا يشبه عالم التجسس والمغامرات السرية الذي يخترقه الروائيون العالم الحقيقي الذي يعيش فيه العملاء وخونة البلاد اليوم. في الروايات، وفي مذكرات الرجال السريين أيام زمان، ذكاء وبراعة في التصرف، إلى درجة تمكّن الجواسيس والعملاء من حمل عبء التناقض بين ما يفعلونه وقيمهم الأخلاقية بدرجة عالية من المسؤولية، وقد يشعر بعضهم، بعد حين، أن ما فعله كان خطيئة كبرى، ويلازمه الندم على ما فعل، وما يتبع ذلك من مشاعر سلبية، ربما تقوده إلى الانتحار، نوعاً من العقاب الذاتي. ليس الحال اليوم كذلك، خصوصاً حال من خبرنا عمالتهم في تجربتنا العراقية، إذ يبرز عندهم انسجام تام بين متطلبات عمالتهم وسلوكياتهم الشخصية في حياتهم اليومية، وهم لا يجدون ضيرا في التلون، حسب ما تقتضيه ظروف الانتقال من موقع إلى آخر، من دون إحساس بالمسؤولية الأخلاقية أو تأنيب الضمير، ومعظمهم لم يشعر بالذنب عما اقترفه، حتى وهو يرى بأم عينيه ما فعله الغزاة في البلاد وأهلها، بل ظهر بينهم من يفاخر علناً بأنه كان "عميلا" لـ16 جهة أجنبية، وآخرون ارتبطوا بموقعين خصمين في آن. 

تحيلنا إلى هذه التداعيات ذكرى رحيل الروائي الشهير، أرنست همنغواي، قبل 64 عاما، التي تثير، كل عام، أسئلة من نوع استفزازي، يطلقها باحثون في سيرته، وطلاب معرفة يأملون كشف جوانب غامضة من حياته، هم يقولون إن همنغواي الذي عرفناه في (الشيخ والبحر) و(لمن تدق الأجراس؟) كان له عالمه السري ومغامراته الصعبة التي وضعته، من حيث يدري أو لا يدري، في خدمة مخابرات دولتين عظميين، في فترة الحرب الباردة. لكن، يبقى السؤال الأكثر إثارة: هل كان همنغواي عميلاً حقا، ولخصمين؟
كان الأميركيون والسوفييت في حقبة الحرب الباردة يتسابقون إلى اقتناص شخصيات ذات وزن وتأثير، لاستخدامها في جمع المعلومات عن الخصم، وتنفيذ مهام تضعف من قدرات العدو. كان همنغواي من هؤلاء، وكان نجمه في الميدان الروائي قد بدأ بالصعود، إثر نشره رواية (لمن تدق الأجراس؟) التي نالت نجاحا كبيراً، ويبدو أن الطرفين نجحا في اصطياد همنغواي، أو هكذا خيل إليهما، ولكن كانت له حساباته الأخرى، إذ أخذ من الطرفين أشياء كثيرة، ولم يعط أياً منهما شيئا، بل ظل محافظاً على نقائه ونظافة ضميره.
يظهر همنغواي، في ملفات (كي جي بي)، على علاقة بها من نوع ما، عبر مسؤول في الحزب الشيوعي الأميركي، وقد سافر إلى مدريد في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية في مهمة لحسابها، كما سافر، فيما بعد، إلى الصين، مرافقا زوجته الصحافية مارثا غيلهورن. وفي حينها، قيل إنه زود مسؤولا كبيراً في وزارة الخزانة الأميركية، يعمل هو الآخر، لحساب السوفييت بتقارير سرية عن أوضاع الصين، والعلاقة بين الشيوعيين الصينيين وحزب "الكومنتانغ". وفي وثيقة ثانية، ذكر مسؤول في (كي جي بي) أن همنغواي في زيارته للصين (سوف يتعاون معنا)، وقد أعطي اسم آرغو للتغطية. وفي وثيقة ثالثة، أبلغت موسكو محطة (كي جي بي) أن (ابحثوا عن فرصة تتيح لآرغو السفر إلى بلدان ذات أهمية بالنسبة لمصالحنا)، وفي مطلع الخمسينيات، عادت موسكو لتؤكد على ضرورة إعادة العلاقة بآرغو، بعد أن كانت قد قطعت في وقت سابق. لكن، لم يظهر في الوثائق ما يفيد بأن ذلك حدث بالفعل.
كانت علاقته المفترضة مع (سي آي أي) موضع بحثٍ، أيضاً. استغلت الوكالة افتتانه بعالم المغامرات السرية، ودعمته ماديا، عبر طرف ثالث، في سفرة له إلى كوبا، مصطحبا فريقا من قدامى المحاربين في الحرب الأهلية الإسبانية، وجهزته بزورق صيد مزود بقذائف ضوئية، ومنظار مقرب لرصد الغواصات الألمانية. في النهاية، لم تهتم الوكالة بما يمكن أن يقدمه من خدمة لها، بعد أن اكتشفت أنه (آخر رجل يمكنه أن يكون عنصراً مخابراتياً ذا قيمة).
أثارت هذه الكشوف الشك في ملابسات انتحاره، إذ ربما يكون قد وقع ضحية لعبة مخابراتية شديدة الذكاء والتعقيد، أو نتيجة نوبات اكتئاب حاد، لازمته إثر شعوره بالندم على قيامه بفعل لم يكن مقتنعا به.
وبعيداً عن سيرة همنغواي، وقريباً من تداعياتنا عن "العمالة" و"العملاء"، لا نجد في سيرة رجال الطبقة الحاكمة في العراق، اليوم، ما يشير إلى نقاء القلب، ونظافة الضمير. لذلك، لا نتوقع أن تصحو ضمائرهم يوماً، كي يراجعوا أنفسهم، كما لا يمكن لهم، وقد ارتكبوا هذا الكم الهائل من الأخطاء والخطايا، أن يمتلكوا الشجاعة لنقد أنفسهم، والتراجع عما فعلوه، أو الانتحار كي يكفروا عن ذلك، ومثلهم أيضا الكتاب والمثقفون المئة وخمسة الذي كتبوا لبوش، يباركون غزوه بلدهم، وطالبوه باستمرار احتلاله، ولأولئك السياسيين، ولهؤلاء الأدباء، لا نجد ما نقوله لهم سوى ما قاله هتلر للذين سألوه: من الذين يحتقرهم أكثر من غيرهم؟ أجاب: الذين عاونوني على غزو بلادهم.
وهكذا، لن تدق الأجراس لا من أجل أولئك، ولا من أجل هؤلاء.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"