عن سردياتٍ مختلف عليها في العراق
يبدو أن سردية 14 تموز/ يوليو 1958 في العراق ستبقى مدار خلاف واختلاف ربما إلى عقود أخرى مقبلة، والسؤال الكبير الذي اختلف عليه القوم سنوات طوالا (هل ما حدث في ذلك اليوم كان انقلابا أم ثورة؟)، فرّخ، هذا العام، أسئلة جديدة لا تقل حرارة عن السؤال الأول الذي لم تستطع العقود الستة التي مرّت أن تنال من حرارته. وقد أخذت أسئلة اليوم نمطا مختلفا: لماذا لم يقنن ذلك اليوم "عيداً وطنياً" للبلاد، وقد حقّق تغييرا كبيرا في السياسة والمجتمع، وفي الحياة العراقية، لا يقلّ عما حققه الاستقلال الأول في عشرينيات القرن الراحل الذي أقام "الدولة العراقية"؟ ثم لماذا لم يأخذ اليوم المذكور مكانه في قانون العطلات الرسمية الذي شرّعه البرلمان أخيراً، مع أنه كان يعدّ كذلك حتى قبل الغزو؟ وفي أقل تقدير: لماذا لم تعلنه الحكومة عطلة هذا العام، وقد شرعنت عطلات لوقائع تاريخية أقلّ أهمية وتأثيراً؟
اتّسع السجال بشأن هذه الأسئلة وكبر، ولفت الانتباه نشر وثيقة على مواقع التواصل قيل إنها صادرة عن رئاسة الجمهورية تعتبر 14 تموز يوم عطلة رسمية، فيما اعتبرته حكومة محمد شيّاع السوداني "يوم عمل"، كذلك فعلت حكومة إقليم كردستان. ورسم هذا الإجراء صورة للفوضى التي تسود التعامل الرسمي مع قضايا كثيرة تهم الناس والمجتمع، كما كشف جانبا من الخلاف بين المؤسّسات الدستورية بخصوص الصلاحيات والمهام. والإشارة هنا إلى الدعوى القضائية التي رفعها السوداني إلى المحكمة العليا بشأن نظام رئاسة الجمهورية وصلاحياتها، والتي ستكون محلّ نظر في الأيام القريبة.
يصحّ هنا أن نقول إن ما أثير ويثار عن هذه السردية التاريخية ظلّ على ناصية عقلانية هادئة إلى حدٍّ ما، وهي ليست السردية الوحيدة التي سهر القوم جرّاءها واختصموا، فهناك سردية أخرى مختلف عليها أيضا، موغلة في التاريخ أكثر، وذات طابع مستفزّ بدرجة أكبر، وهي لا تزال مثار سجالاتٍ لم تنقطع، منذ أعيدت الى الحياة فجأة بدعوى التمسّك بالمذهب، والدفاع عن العقيدة، بعد أن كادت أن تختفي وتموت، ثم أخذت طريقها بسرعة أيضا لتصبح "عطلة رسمية" بموجب تشريع برلماني اتّخذ صفة الاستعجال. تلك هي سردية "يوم الغدير" التي يرى فيها أتباع مذهب معين أنها تكرّس الخلافة وريادة المسلمين لعلي بن أبي طالب، وتنكر على الخلفاء الراشدين الثلاثة الباقين أحقيتهم في تصدر مواقع الريادة والقيادة، وقد تكفّر من لا يؤمن بها، وتخرجه من دائرة الإسلام، فيما يشكك أتباع مذاهب أخرى في تفصيلاتها، ولا يرونها من المسائل العقيدية القطعية، وهناك فريق ثالث ينظر إليها أنها ليست سوى واحدة من آلاف السرديات التي حملها تاريخ 1500 عام. وتحتمل، كما غيرها، الكثير من اللبس والشك الذي لا يبرّر الاختلاف والخصومة حولها على النحو الذي نشهده اليوم، والذي تجاوز حدود الطابع العقلاني، وأوشك أن يتسبّب في تعقيدات أكبر.
سردية لا تزال مثار سجالاتٍ لم تنقطع، منذ أعيدت إلى الحياة فجأة بدعوى التمسّك بالمذهب
وما نقل سردية "يوم الغدير" من الجانب التاريخي المذهبي الى الجانب السياسي المعاش سوى سعي "وكلاء إيران" المحموم لإضفاء مزيد من سماتٍ عقيدية على منهج الدولة العراقية، بما يؤهلها أكثر فأكثر للانضواء تحت راية "الولي الفقيه". وكان الأحرى بالحاكم، إن كان يحكم بالعقل وبالسياسة، أن يجيز لكل مكوّن قومي أو ديني أو مذهبي أن يقيم الشعائر التي يراها متفقة مع عقيدته، وأن يحتفل بما هو حريٌّ بالاحتفال به وفقا لاعتقاداته، على أن يكون ذلك تحت مظلّة القانون والحقوق واحترام الرأي الآخر، ومن دون أن يحوّل سرديّات مختلف عليها إلى تشريعات تأخذ صفة الإلزام، وتحمل الكثير من السخونة الطائفية، وتشحن طاقة الجمهور العريض بالتوتّر وربما الحقد، والرغبة في الانتقام.
وثمة خشية من أن يتحرّك آخرون للمطالبة باعتماد سرديات تاريخية أخرى تخصّ هذا المذهب أو ذاك عطلاً رسمية أو أعياداً، وربما لترويج خطاب "الأقاليم" الذي يدفع البلد إلى مزيد من التشرذم والانقسام، وإلى مزيد من خراب البيوت والنفوس.
يبقى التذكير بأن هناك سرديات تاريخية متفق عليها تحفّز على الوحدة الوطنية والتكامل والإغناء، وتوفر أرضية سليمة لبناء المجتمعات المحلية وتنميتها، لماذا لا يجري بعث الحياة فيها، وإضاءة جوانبها الفكرية، وتضمينها في الخطاب السياسي اليومي والاحتفاء بها؟
هذا ما كان يمكن أن يتحقّق لو فكّر الحاكم أن يحكم بالعقل وبالسياسة، وليس بالأهواء والرغبات والعصبية.