لماذا أفسد السيسي كل الهدايا؟

17 سبتمبر 2020
+ الخط -

يكاد السيد عبد الفتاح السيسي أن يكون أول حالة في التاريخ السياسي العربي، والعالمي أيضا، يتكفّل بنفسه في إفساد كل هداياه التي مُنحت له بعبقريةٍ تثير العجب، وتدعو علم النفس إلى دراسة هذه الظاهرة بتمعّن، فهو أول رجل يجد الحكم مُعَدًّا سلفا، وما عليه سوى أن يأمر بإرسال حاكم شرعي إلى قاعدة عسكرية، ثم يقوم بتفصيل وجوده في الحكم من الألف إلى الياء، وفقا لما يحب، ابتداءً من تحصين قياداته العسكرية من أي متابعةٍ قانونية، حتى تغيير مواد الدستور مرورا باختيار أجهزته لبرلمانٍ يوافق على كل شيء تقريبا، ابتداء من قانون تحويل ممتلكات الخصوم ومستشفياتهم ومدارسهم إلى موازنة الدولة، مرورا بقانون المصالحة والهدم حتى تغريم الراسب في الجامعة أو واضعة المكياج في الجامعة أربعة آلاف جنيه، (آخر تقليعة) تؤلفها أجهزته الإعلامية ليلا، ثم يمسحها في الخصوم المسجونين أصلا على أنها شائعة، إن لم تمر، فإن مرّت للتخويف فخير، وإن لم تمر فيتم شطبها قضائيا (كإلزام الذي لم يذهب للانتخاب بدفع 500 جنيه). وأظن أن هذا لم يحدث لا في تاريخ أثينا أو إسبرطة من أفلاطون مرورا بأرسطو، وذلك على أن السيد عبد الفتاح فيلسوف أطباء وطبيب فلاسفة، يصف الدواء لكل مرضٍ، كما قال، وظل يقرأ في الحكم والدولة 50 سنة، ويقول بعد ذلك إنه لا يعرف في السياسة، ففي أي فرعٍ من العلم أضاع الرجل الخمسين سنة؟ لا أحد يعرف، ثم يجلس ضاحكا وسط أتباعه، ويقول: "إنتوا مش عارفين إنتوا نور عينينا ولا إيه؟".
هل كانت تلك المقولة منذ سنوات بالذات مقدمة هزيلة لما قرره السيد عبد الفتاح من الانتقام، حتى بهدم بيوت البسطاء، بعدما شيّدوها من عرقهم لأولادهم؟ يكاد يكون هو الذي حصل أيضا على أول تفويض من إعلامه على بياض بعد (ربع ساعة ثورة)، فاستغل التفويض في حفر قناة سويس جديدة من الألف إلى الياء من أموال الشعب، لم تزد دخل القناة الأمة مليما، ثم اكتشف الشعب أن السيد عبد الفتاح يضحك الضحكة نفسها حينما "يفسد الفنكوش"، ويقول: "إن القناة هي لرفع الروح المعنوية للشعب"، بعدما قال رئيس المشروع، الفريق مهاب مميش، إن القناة الجديدة ستُدخل إلى خزينة الدولة المليارات، فأين ذهبت المليارات؟ لا أحد يعرف، وأين ذهبت سبائك ذهب المناجم المكتشفة أو حقول الغاز، لا أحد يعرف بالطبع. ولا أحد أيضا يسأل، وإن سُئل عن بناء القصور الرئاسية همسا، بعد الفضائح في القنوات الفضائية المعارضة، يرد بوعيد وتوعد أيضا: "أيوه هبني وهبني وهبني، أنتوا هتخوفوني يعني؟"، ثم يبدأ في هدم بيوت البسطاء، لإجبارهم على مصالحةٍ يفاصل في قيمتها، كي يُنسي الناس موضوع سد النهضة تماما، لأنه كما قال وقرّر ودرس في علوم الأنهار والمياه "بناء البيوت أخطر من سد النهضة".
مقولة أيضا تستحق الدراسة من مستشاره العلمي أحمد عكاشة، الذي نبهه "أن تجويع المصريين فائدة لهم وللوطن". هل حصل رئيس في العالم من عالم نفس على تصريح أو "فرمان علمي" أكثر جمالا من هذا في تاريخ العالم كله، من الهند والسند حتى أميركا؟ والله لا أظن ذلك.
هذا من ناحية العلم، أما من ناحية الدين، فأحيلكم إلى الشيخ عمرو خالد "وتفاحه وخوخه وأعنابه"، التي رآها في الحلم على مائدة السيد عبد الفتاح، من دون سائر الرؤساء والملوك. أما الشيخ خالد الجندي، فقد قال "اللهم احشرني مع السيسي". طبعا هو عارف المائدة من حلم عمرو خالد، بل زاد الأمر وضوحا وفجورا، وقال "أنا مطبلاتي، وأنا أطول أكون من فقهاء السلطان أصلا؟".
أنا لم أُحِلك لا إلى أحمد موسى ولا إلى محمد موسى، ولا إلى عزمي مجاهد (طيّب الله ثراه)، ولم أُحِلكم إلى حرب مفتعلة في ليبيا، حاول أن يشعلها للهروب إلى الأمام، فتصالح الخصوم في المغرب، ونسي الناس الموضوع تماما، وقاموا على أصوات البلدزورات وهي تهدم منازلهم.
أنا لم أُحِلك إلى تعويم الجنيه، وكيف ضاعت نصف مدّخرات المصريين في ليلة واحدة، ولم أحِلك إلى مجزرة ميدان رابعة العدوية وأخواتها في الرضاعة أو شقيقاتها في الدم، ولم أحِلك إلى رئيس وابنه ثم دفنهما في سنة واحدة، ولم أحِلك إلى أحزاب شبه مغلقة، وتكبر وتسبح كوادرها بنعمة الغلق والعلاج في مستشفيات القوات المسلحة طمعا في الموت الهادئ في سلام التكييف وبرودته، ولم أحِلك على المختفين قسريا، ويصمت العالم فاتحا له مطاراته، فأي هدايا منحت لذلك الرجل، وأفسدها بعبقرية نادرة؟