لبنان .. عن أي "عقد سياسي واجتماعي" يتحدثون؟
في ظل الأزمات العاصفة والمتتالية التي ضربت لبنان في الفترة الماضية، كَثُر الحديث في الداخل اللبناني وفي الخارج، وفي السر وفي العلن، عن ضرورة تغيير "العقد السياسي والاجتماعي"، أو تعديله، وهو الذي يحكم العلاقة بين مختلف الطوائف والقوى السياسية في لبنان، والذي أرسى قواعده اتفاق الطائف لعام 1989 بعد إنهائه الحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت بين عامي 1975 و1989.
فمن طرح الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في عام 2012 فكرة عقد "مؤتمر تأسيسي وطني" عنوانه "بناء الدولة" من خلال إعادة صياغة دستور لبنان، وتكرّر الطرح أكثر من مرّة، إلى تأييد حركة أمل فكرة "المؤتمر التأسيسي" والدعوة إلى بناء "دولة المواطنة". ومن ثم هجوم المفتي الجعفري الممتاز، الشيخ أحمد قبلان، المقرّب من الثنائي الشيعي، قبل أشهرٍ أربعة، على اتفاق الطائف، مطالباً بضرورة إسقاطه. ومن ثم طرح الرئيس الفرنسي ماكرون فكرة "عقد سياسي" جديد في لبنان في أثناء زيارته الأولى بعد انفجار مرفأ بيروت الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، وتلقف حسن نصرالله الطرح معلناً انفتاحه عليه، ومن ثم دعم الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية الطرح، ودعوتهم إلى الذهاب بلبنان إلى "الدولة المدنية" .. بعد كل هذه الطروحات، يبدو أنّ لبنان على موعد جديد مع تغيير للعقد السياسي والاجتماعي الذي يحكم العلاقة بين مختلف الطوائف والقوى السياسية اللبنانية، لكن هذه المرة بنيات دولية واضحة تقودها فرنسا، وتوحي بأن تسوية ما يجري الإعداد لها في لبنان، تواكب التغييرات العديدة التي تشهدها المنطقة.
يبدو أنّ لبنان على موعد جديد مع تغيير للعقد السياسي والاجتماعي الذي يحكم العلاقة بين الطوائف والقوى السياسية
تحمل هذه الطروحات ودعمها من أفرقاء معيّنين في لبنان نيات كثيرة متعارضة ومتناقضة، فحزب الله وحركة أمل على سبيل المثال، وباعتبارهما من المؤيدين الأساسيين لطرح "المؤتمر التأسيسي" الجديد أو "العقد السياسي والاجتماعي" الجديد، يريدان من خلال أي منهما إعادة رسم موقع الطائفة الشيعية من خلال الثنائي الشيعي في النظام السياسي اللبناني، وذلك بإقامة نظام يقوم على "المثالثة" بين السنة والشيعة والمسيحيين بدل "نظام المُناصَفة" بين المسلمين والمسيحيين المعمول به حالياً، حسب اتفاق الطائف. وبالتالي يشكل هذا الطرح أحد أهم المطالب الاستراتيجية للثنائي الشيعي، وخصوصا لحزب الله الذي دائماً ما يستحضر أمينه العام معالم القوة السياسية في الحزب، والمتمثلة باعتباره أكبر حزب سياسي في لبنان، وأكبر جمهور لحزب في لبنان أيضاً.
يرى التيار الوطني الحر أنّ اتفاق الطائف انتقص كثيراً من حقوق المسيحيين، وتحديداً الموارنة، لصالح المسلمين!
وعلى النقيض من ذلك، يرى التيار الوطني الحر، برئاسة جبران باسيل الذي يدعو إلى إقامة "الدولة العلمانية"، أنّ اتفاق الطائف انتقص كثيراً من حقوق المسيحيين، وتحديداً الموارنة، لصالح المسلمين، وبالتالي يدعو إلى صيغة مستقبلية في نظام سياسي جديد تعيد "الحقوق المهدورة" للموارنة، وهو ما يتوافق مع رأي الرئيس ميشال عون الذي كان من أشد معارضي اتفاق الطائف عند توقيعه، لأسباب عديدة، منها تقليصه صلاحيات رئيس الجمهورية (المسيحي) على حساب زيادة صلاحيات رئيس مجلس الوزراء (السني).
ويتمحور الطرح الغربي الذي تقوده فرنسا بعد زيارة رئيسها ماكرون لبنان، إثر انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب الماضي، حول فكرة "عقد سياسي جديد" في لبنان. طبعاً هذا الطرح قديم ويعود إلى الفترة التي تلت انسحاب "إسرائيل" من جنوب لبنان عام 2000 عندما تم تداول فكرة عقد "مؤتمر تأسيسي جديد" في لبنان، في معرض النقاش الذي دار كثيراً بخصوص مصير سلاح حزب الله بعد الانسحاب الإسرائيلي، وانتفاء صفة "المقاومة" عن الحزب. لذا جاء الطرح آنذاك لمحاولة دمج حزب الله في المنظومة السياسية اللبنانية، ومنحه بعض المكاسب السياسية في مواقع السلطة وإداراتها في مقابل تقديم بعض التنازلات، وخصوصا في ما يتعلق بسلاحه، وهو الطرح نفسه الذي يتم تداوله حالياً، حيث تشير تحليلات إلى وجود صفقة سياسية غير معلنة تقوم على تثبيت المعادلة الداخلية في لبنان من خلال دولةٍ يكون للحزب فيها نفوذ مباشر وقوي، وصلاحيات قانونية تضمن حقوق جمهوره، مقابل تقديم تنازلاتٍ في موضوع السلاح وارتباطاته الإقليمية.
كانت الطبقة السياسية سبباً أساسياً في تحويل النظام اللبناني من ديمقراطي برلماني تعدّدي إلى طائفي محاصصاتي
ويتضح من خلال هذه الطروحات أن "العقد السياسي والاجتماعي" الجديد الذي يجري الحديث عنه بكثرة في لبنان وخارجه يرتبط، في جزء منه، بالداخل اللبناني، وفي الجزء الآخر يرتبط بالخارج وبالتغييرات العديدة التي تشهدها المنطقة، فما يشهده لبنان اليوم ليس مجرّد أزمة حكم، أو حتى أزمة نظام سياسي واجتماعي، وإنما يشهد معركة كيان، وهي معركة مزمنة ومستفحلة، تتطلب تضافر جميع الجهود لإعادة لبنان إلى موقعه ومكانته الطبيعية، من خلال إطلاق مبادرة وطنية لتأسيس عقد اجتماعي جديد، بعيداً عن الحسابات الداخلية لأحزاب السلطة والطبقة السياسية الفاسدة، وكذلك بعيداً عن الحسابات الدولية ذات النيات المشكوك فيها، فالنظام الحالي في لبنان لم يعد قابلاً للاستمرار، غير أن هذا لا يعني استبداله بنظام جديد، تتموقع خلاله الطبقة السياسية المسيطرة نفسها، والتي كانت سبباً أساسياً في تحويل النظام السياسي اللبناني من ديمقراطي برلماني تعدّدي إلى طائفي محاصصاتي.
وبالتالي، يجب أن يقوم أي نظام سياسي جديد في لبنان على أساس إعادة تكوين السلطة، عبر انتخابات نيابية حقيقية على أساس "المواطنة"، بعيداً عن الطائفية والمذهبية والعنصرية، واعتماد إصلاحات حقيقية وجدّية في الدستور، تتيح بناء "دولة المواطنة" الحقيقية. وهذا لن يكون إلا باستعادة الشارع اللبناني زخمه، وإعلاء إرادته بالتغيير المنشود في "العقد السياسي والاجتماعي" الجديد، سواء لتعديل العقد القديم، أو لإعادة إنتاج صيغة جديدة بشكل جذري، بعيداً عن الطبقة السياسية الفاسدة وتبعيتها الإقليمية.