لبنان: القاتل ـ الضحية

30 يونيو 2018
+ الخط -
أن تشجّع منتخباً كروياً في لبنان يعني أنك معرّض للقتل، أقلّه بلغة ما حدث قبل أيام في العاصمة بيروت، حين أقدم فتى على قتل آخر، فقط لأنه يشجع منتخباً مختلفاً في بطولة كأس العالم لكرة القدم المُقامة حالياً. ينتمي القاتل والقتيل إلى البيئة الاجتماعية الواحدة. لا صدام طبقياً بينهما ولا خلاف مذهبياً ولا سياسياً، بل رياضي. منتخبٌ يفوز على آخر في روسيا، يسقط قتيلٌ في لبنان. إنها تراجيديا لا يعرفها سوى أبناء البلد الساعي إلى اكتساب هويةٍ ما، والتماهي معها، والدفاع عنها حتى الموت، حرفياً. ولنا في سابقة التماهي مع الحزب أو الزعيم  أمر مماثل.
كانت كرة القدم هذه المرة هي الجريمة، في عام 2016، قتل عسكري أربعةً من جيرانه بسبب نباح كلاب، وفي 2015 قتل شخصاً آخر بأعصابٍ باردة، بسبب خلافٍ على أفضلية مرور. وفي العام الماضي، طارد أربعة شبان شخصين في سيارة، قُتل واحد ونجا الآخر. العملية لم تعد فقط مرتبطةً باستسهال القتل، بل في استيلاد الوهم المُصاحب لتكريس التمازج مع هوية ما. هوية قد تكون قاتلة للطرفين، لكن البقاء للأقوى. عملياً، بات لبنان حقل اختبارٍ واسع النطاق، "يُمكن" إجراء التجارب النفسية عليه، قبل الخروج بنتيجةٍ طبية ما. خطورة المسألة مرتبطة بعدم نية اللبنانيين الخروج من هذه الدوامة. صحيحٌ أن جزءاً منهم يحاول النفاذ بحياته يومياً، من ساعة الخروج من المنزل إلى العودة إليه، إلا أن بعضهم الكثير يعمل على قاعدة "الحياة أو الموت" في كل تفصيل. وهو ما يخلف استنفاراً دائماً وإجهاداً لا يهدأ.
ليست هذه الحالة جديدةً في لبنان، لكنها أضحت مستفحلة. لم يعد اللبنانيون قادرين على تقديم المغفرة بعضهم لبعض. يريدون الضرب في كل تفصيل، ويريدون وضع العقل جانباً من أجل غرائزية ما. إنها مشكلة، فتقدّم الشعوب وتحرّرها، مرتبط بصحتها النفسية، ونحن في صحة نفسية يُرثى لها. يعتبر بعضهم أن إفرازات الحرب هي ما تجعل من اللبنانيين في هذه الحالة، غير أن الأمور غير مرتبطة بالحروب. شهدت منطقة البلقان حروباً طاحنةً في التسعينيات، وانتهت من دون تأثيرات مستمرة، لا بل انصرفت شعوبها إلى بناء اقتصادياتها ومجتمعاتها. الأمور مرتبطة بالأخلاقيات العامة، فإذا كانت الدولة عاطلةً لا يعني أن علينا أن نكون عاطلين. هذا ما لم يفهمه اللبنانيون، رافضين التصالح مع الذات، في مواجهة أي تفصيلٍ قد يمزّق النسيج الاجتماعي، بل فضّلوا تمزيق النسيج على أي أمرٍ آخر.
هل ستقف الأمور عند هذا الحدّ؟ أكيد لا. ليست المشكلة مرتبطةً بحالة فردية، بل بقنابل موقوتة منتشرة في مجتمعنا اللبناني. في أي لحظةٍ، يُمكن لك أن تسمع خبراً عن جريمة قتلٍ بسبب حادثٍ تافه، ولا أحد سيحاسب بطريقة عملية، لا بل إن للقاتل حظوظاً في الخروج من السجن، إذا كان منتمياً لفريق سياسي معيّن، فلا يُحاسب حينها، وكأن لا جريمة ارتُكبت، وكأن القتيل سقط في حادث سير عادي. يحتاج اللبنانيون إلى حكم رادع، يبحث عن أكثر من توقيفات على "فيسبوك" أو ما يعتبرونه "النيْل من الشخصيات والأديان"، والذهاب إلى بحث أسباب تفشّي الجرائم، والمحاسبة حيث يجب والمعالجة حيث يجب. عملياً، أصبحنا في دركٍ سفليّ من حياتنا اليومية، وبتنا في حالةٍ من الخوف من مداهمة الموت لنا في أي لحظة "غير مؤاتية". لا نريد أن نُقتل في الشوارع لأي سبب، نريد أن نحيا. طبيعة لبنان المتوسطية أقرب إلى ثقافة الحياة لا الموت. لا نحتاج إلى أن نكون مشاريع أضحيةٍ في بلدٍ بات قريباً من كونه ضحية. هل ستسمع الدولة؟ لا أعتقد ذلك، فهي تعشق الغياب عن الإنسان، وتعشق الحضور في الحصص وتقاسم السلطة وغنم الخزينة اللبنانية.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".